الطبخة المسمومة التي تم إعدادها على مهل ل «حماس» صارت تزكم الأنوف، فروائحها تنبعث من كل حدب وصوب!! لقد سمعنا شعاراً واحداً تردد صداه من الشرق والغرب عقب فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة: «نحترم خيار الشعب الفلسطيني.. نحترم الخيار الديمقراطي».. لكن الذي ثبت بعد ذلك أن الشعارات التي سمعناها شيء.. وما جرى على أرض الواقع شيء مختلف تماماً، إذ لا أعتقد أن حكومة فازت باختيار ورغبة الشعب في انتخابات واجهت ما تواجهه حماس اليوم، من حرب وألاعيب وطعنات من الخلف، ومراوغة من الأقربين قبل الأبعدين.. ومن ذوي الرحم واللحمة وشركاء المصير قبل الأعداء المتربصين.. ولنقترب أكثر من الصورة.. فعند إعلان نتائج الانتخابات التشريعية في يناير2006م بدا قادة فتح المنهزمون في مشهد ديمقراطي رائع.. سلموا بالنتائج.. وهنأوا حماس على فوزها.. وبدا الرئيس الفلسطيني محمود عباس منتشياً بما حققه من ديمقراطية؛ مؤكداً اعتزامه تكليف حماس بتشكيل الحكومة. يومها شعرت كغيري أننا نتابع انتخابات في منطقة أخرى غير المنطقة العربية .. شعرت أن الدنيا تغيرت فجأة إلى حالة من التحضر والروح الديمقراطية الغائبة عن مثل تلك المشاهد الانتخابية المحبطة في المنطقة.. وشعرت أن هذا التغيير التاريخي عندما يأتي من أرض فلسطينالمحتلة، ومن شعب وقيادة تحت الاحتلال، فإن الدرس يكون بليغاً لتلك الأنظمة التي تحول الانتخابات في بلادها إلى مواسم للنفاق والتزوير وقهر إرادة الشعوب. لكن مشاعري كانت مفرطة في التفاؤل.. وقد قضى على آخر خيط منه ما نشاهده ونتابعه على امتداد أربعة أشهر منذ تشكيل حكومة حماس حتى اليوم.. فمنذ تشكيل الحكومة، بدا أن هناك استماتة من رجال فتح المنهزمين بقيادة محمود عباس على المشاغبة والمعاكسة والتعويق لأي خطوة تعتزم الحكومة اتخاذها، ضمن ممارسة مهامها، وبدا أن هناك تخطيطاً جهنمياً من قبل كل الفرقاء سياسيين وأمنيين على عدم تمكين حكومة حماس من التحرك قيد أنملة حتى تبدو «محلك سر» وتسقط في محلها.. ويبدو أن ذلك هو الدور المنوط بفريق كبير من قادة فتح ضمن المخطط الواسع الذي يقوده الغرب لصالح الصهاينة لحرق حركة حماس.. إنه توزيع الأدوار بدقة.. الغرب يحاصر ويجوِّع الشعب الفلسطيني ويمنع عنه كل مقومات الحياة، حتى إذا أشرف الشعب على الموت.. حركوا الفتات من الغوث.. وفي نفس الوقت تحرك فتح الجماهير في الداخل للتظاهر والاحتجاج واحتلال المجلس التشريعي، مطالبين الحكومة بالرواتب والعون والإمداد.. وكأن إسماعيل هنية هو الذي منع الرواتب، وكأن وزراءه هم الذين يحجبون الغذاء والدواء المتدفق من الخارج عن الشعب! ولم نر تلك المظاهرات وتلك الاحتجاجات العارمة يوم كان البعض من حكومة فتح ينهب قوت وأموال الشعب الفلسطيني.. يوم نهبوا الخزائن حتى صارت خاوية، والدواوين والمعونات.. لقد تاجروا في كل شيء، وكان ينبغي عليهم بعد الهزيمة أن يراجعوا حساباتهم السياسية ويراجعوا سجلاتهم المالية وينكفئوا على أنفسهم خجلاً وندماً.. ولكنهم يستميتون على العودة للسلطة بأي ثمن، حتى ولو كان الثمن تفجير حرب أهلية وإسقاط الساحة في أتون صراعات داخلية لا تبقي ولا تذر. في البدء حاول قادة فتح التجمل والظهور بصورة ملؤها الروح العالية والصدر الرحب، والتسليم بالنتائج. ويبدو أنهم كانوا يراهنون على فشل حكومة حماس ذاتياً وعدم قدرتها على الصمود في الإدارة كأول تجربة.. فلما بدا أن هناك انطلاقة يمكن أن تحدثها حماس على صعيد السياسة كما حدث على صعيد القتال والمقاومة وبدا أن للحركة مخزوناً وخبرة وسياسة تمكنها بفضل الله من إدارة الأمور.. وبدا وذلك هو الأهم أن نموذج الحكومة الإسلامية قاب قوسين من تحقيق نجاح منقطع النظير.. لما بدا ذلك كله، تفجرت الحرب على حماس من كل حدب وصوب وعلى كل صعيد! مظاهرات تتحرك.. واحتلال للمجلس التشريعي.. مسيرات للمليشيات.. فرق عسكرية.. مماحكات سياسية.. حرص على إظهار الخلاف والاختلاف بين الرئاسة والحكومة.. وسط استمرار الحصار والتجويع من الخارج والاعتداءات الصهيونية المتواصلة.. وكل ذلك يمثل قنابل وشراكاً وفخاخاً لتعويق حكومة حماس ومحاولة إسقاطها. لقد امتلأت عجباً.. عندما شاهدت مغاوير «عباس» يستعرضون قوتهم في استعراض قتالي في شوارع جنين تحت اسم «قوة الحماية» (2800عسكري)، وقيل وقتها إنها رد على القوة الأمنية لحماس في غزة.. وتساءلت كغيري: ليتها ظهرت رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكررة.. وبدا تساؤلي متواضعاً عندما تطايرت الأنباء عن أن تلك القوة مدعومة من كل الخصوم.. إنهم إذاً يشكلون جيشاًً لمواجهة قوة حماس أو تصفيتها.. أو قل للقضاء على حماس! وذلك هو بيت القصيد.. الذي جاءت من أجله السلطة بعد اتفاقيات أوسلو.. والذي من أجله جيء بعرفات للمقاطعة رئيساً ثم تم التخلص منه بعد فشله.. والذي على أساسه سيُقبل أبومازن شريكاً.. والذي من أجله تدور المباحثات وتحيك المخططات بين كل قوى الشر. ولكي أزيد الأمر وضوحاً.. أسترجع ما قاله شيمون بيريز الداهية الصهيوني المعروف في أكتوبر 2005م للإذاعة الإسرائيلية: «من الواضح وضوح الشمس أن علينا أن نشن مواجهة لا هوادة فيها ضد حماس، وأن ندعم دون تردد أبومازن»! ودعا إلى إقامة جبهة مشتركة بين «إسرائيل» وعباس ضد ما أسماه «الجنون الإرهابي»!! وأستعيد كذلك ما قاله البروفيسور عمانويل سيفان من الجامعة العبرية في القدس: «يجب ضرب حماس، وإيجاد فجوة بينها وبين فتح في ذات الوقت، وليس هناك بديل لفتح، وما يتوجب هو عرض الجزرة عليهم وتعزيز دافعيتهم لمقاتلة حماس.. ليس لدينا طريقة للتأثير على حماس مباشرة إلا من خلال السلطة». وما قاله البروفيسور غباي بن دور رئىس مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة حيفا العبرية: «.. لنفحص كيف قام المصريون بمعالجة مشكلة الإخوان المسلمين.. وفي المقابل يتوجب علينا الوصول إلى وضع لا نعمل فيه وحدنا، بحيث تقوم السلطة بتنفيذ جزء من الحرب ضد حماس..». هل مازال الأمر يحتاج إلى مزيد من الإيضاح؟!. * مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية