"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين". [آل عمران 97] يبدأ الحاج رحلته المقدسة المباركة، بسجود شكر للحق سبحانه، أن هيأ له الأسباب والإمكانيات والتيسير، فكان من المستطيعين، والقادرين على أن يستجيب لهذه الدعوة الإبراهيمية الجليلة، ويؤدى هذا الركن العظيم. وكان ممن شرفهم الحق سبحانه، الغني الكريم الذي لا تنفعه طاعة مخلوق، ولا تضره معصيته، فلبى النداء، ثم يحمده سبحانه على أن نجاه من الكفر والخسران. ولأنه نجا من هذا التهديد الفاروقي فيما رواه سعيد في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصارِ فينظروا كل من كان له جِدَةٌ أي سعة من المال ، ولم يحج، ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ماهم بمسلمين". ثم إن شكر الله سبحانه على نعمه العظيمة؛ جعله الحق مصدر زيادة لهذه النعم؛ كما قال جل وعلا: "لئن شكرتم لأزيدنكم". [إبراهيم 7] وهي الرسالة التربوية الأولى للحج؛ أن الله جعل للمسلم فاعلية وذاتية وإيجابية في أن يزيد هذا الخير وسائر نعم الله عز وجل، وفي استجلاب الخير؛ وذلك بأن يشكره سبحانه دوماً. فالحق سبحانه قريب مجيب سميع خاصة للشاكرين الحامدين؛ كما نردد في صلواتنا ليل نهار: "سمِعَ الله لمن حمده". ولقد راهن إبليس اللعين على قلة الشاكرين من بني البشر: "ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ". [الأعراف17] لهذا كان وعده سبحانه الكريم: "وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ". [آل عمران144] فهل نحن أهل لهذا الموعود؛ بأن يجمعنا ركب الشاكرين الحامدين؟!. أم سيصدق فينا رهان إبليس؟!. الرسالة الثانية: السباقون إلى المعالي: روي ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرض لهُ". [رواه أحمد] هذه الدعوة الكريمة من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة، والتعجل في قضاء هذا الركن العظيم، عند الإستطاعة، هو جزءٌ من كل، وملمح من باب عظيم في المنهج، يدعو المسلم إلى المسارعة في الخيرات، دون تراخ؛ كما جاء في هذه النداءات: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ". [آل عمران133] و"فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ". [البقرة148] و"بادروا إلى الأعمال سبعاً؛ هل تنتظرون إلا فقراً مُنسياً، أو غنىً مُطغياً، أو مرضاً مُفسداً، أو هَرَماً مُفنداً، أو موتأً مُجهزاً، أو الدجال فَشَرُ غائبٍ يُنتظر، أوِ الساعةَ فالساعةُ أَدهى وأَمَرُ". [رواه الترمذي وقال: حديث حسن] بل ويجعل هذه الروح السباقة إلى فعل الخيرات، أحد موازين التقييم للعباد، ومن أسباب المسارعة في استجابة الدعاء، فالجزاء من جنس العمل، وتأمل ذلك التقدير القرآني حول صفات أسرة زكريا عليهم السلام: "وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ". [الأنبياء89و90] والرسالة التربوية؛ هي التركيز على أهمية بث روح المبادرة والتنافس بين الأفراد، وهذا من شأنه أن يساعد على إيجاد الإيجابيين، السباقين التواقين للمعالي، ويقلل من بروز روح العفوية أو السلبية، ويقي من بروز ظاهرة الإمعية!. الرسالة الثالثة: أهمية قراءة التاريخ: فالحج يدعونا إلى قراءة هذه الصفحات من ملف قصة إبراهيم عليه السلام: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". [إبراهيم37] فمن خلال هذه اللمحة التاريخية، يرنو المسلم بفكره، ويتذكر تاريخ تلك العائلة المباركة، ويسمع الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يتجه إلى ربه معلناً أنه قد أسكن بعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبيت الله الحرام، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها؛ وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون هذه المشقة من أجلها، ثم دعا الحق سبحانه، أن يرقق قلوب البشر ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق أهل المكان، الخير مع هؤلاء القادمين، ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين. وهو مرتكز دعوي، يوضح أهمية استشعار مدى عمق جذور هذه الدعوة، وبعدها التاريخي السحيق، ومعنى أن المسلم يردد في صلواته الخمس، ويؤكد على هذه الصلة القوية، بين حلقات الدعوة: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم. وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد". [رواه مسلم وأحمد] ويفخر بأنه حلقة في سلسلة الخير، وذلك عندما يطلع على ما ورد في معنى "آل محمد"،(قيل: هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني عبد المطلب، وقيل: هم ذريته وأزواجه، وقيل: هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة، وقيل: هم المتقون من أمته). [فقه السنة: سيد سابق] كل هذا يدعو الداعية، أن يحافظ على هذا الإرث العظيم، والتواصل الحضاري. ويفخر بهذا الذكر الجليل، والبركة التي تغمره بهذا الدعاء الطيب الذي يتردد على ألسنة أكثر من مليار مسلم كل صلاة. ولا ينسى عمق المسؤولية والتي تشرف بأن توضع على عاتقه؛ فهو الذي اختار ورُشح لأن يحمل هذا الخير للبشر. كل هذه القضايا لا يمكن استشعارها دون الإطلاع على تاريخ هذه الدعوة المباركة الخالدة. وأكرم بالتاريخ من واعظ!. فالتاريخ كما يسميه د. القرضاوي هو مخزن العبر، ومعلم الأمم، وهو ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، من أهمله أشبه بمن يفقد ذاكرته.