«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مأساة كامليا ومأزق الكنيسة[3 ]
نشر في المصريون يوم 04 - 10 - 2010

(1) رغم قسوة الصورة التى عرضناها فى المقالة السابقة عن محاكم التفتيش التى أقيمت لتعذيب المسلمين فى الأندلس بعد انهيار الدولة الإسلامية إلا أننا تعمّدنا ألا نفيض فى تفاصيل هذه القصة المروّعة، وقد حرصت على أن أتناول الجزء الأخير الباقى من مسلسل العذاب الجهنمي بعد أن تفشّت سيرته فى أوربا وأصبح موضع استهجان من الحركات الثورية السياسية والدينية التى انقلبت على طغيان الكنسة الكاثوليكية وفسادها.. وأعنى بذلك الثورة الفرنسية، والبروتسطنطية مما أجبر محاكم التفتيش فى أسبانيا أن تخفى ممارساتها الإجرامية تحت الأرض .. يمارسها القسس سرا وخفية، ولكن كالعادة يظهرون البراءة والمسكنة أمام الناس...! وقبل ذلك كانت تعقد حلقات التعذيب والقتل وحرق المسلمين أحياء فى وضح النهار أمام جماهير المسيحيين فى احتفالات ، كان يحضرها الملوك وكبار القوم و يقوم قساوسة الكنيسة بتفيذ عمليات التعذيب...
فى هذه المقالة أكتفى بقصة بسيطة تكشف شيئا من المناخ الذى كانت تعيش تحت وطأته الأسر المسلمة التى فُُرضت المسيحية علي افرادها قهرا.. ولكنهم فيما علمنا ظلوا يمارسون عقيدتهم الإسلامية فى خفاء شديد وعاشوا على مضض يتجرعون الهوان والمذلة.. ويشاهدون أبناءهم وبناتهم يتم تنصيرهم وانتزاعهم من حضن الاسلام بينما هم عاجزون عن حمايتهم أو حتى التحدث إليهم فى أمر دينهم.....
(2) القصة التى أسوقها هنا لفت نظرى إليها الدكتورإبراهيم عوض فى مقالة له بعنوان: لماذا ترك برتراند رسل المسيحية، وهى قصة أوردها الشيخ على الطنطاوى فى كتاب له بعنوان: "محمد الصغير" تصوّر شيئا من الجو الرهيب الذى عاش فيه المسلمون فى الأندلس فى ظل محاكم التفتيش. تقول القصة، وهى مرويّة بلسان بطلها الصغير:
"كنت يومئذ صغيرا لا أفقه شيئا مما كان يجري في الخفاء. ولكني كنت أجد أبي رحمه الله، يضطرب ويصفرّ لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من "الكتاب المقدس" وأخبرته بما تعلمت من اللغة الإسبانية، فيتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدُّنُوِّ من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة لا أدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها مُحمرّ العينين كأنه كان يبكى بكاءً طويلا. ويبقى أياما ينظر إلىَّ بلهفة وحزن ويحرك شفتيه، فِعْلَ من يهمّ بالكلام.. فإذا وقفت مصغيا إليه أدار ظهره وانصرف عني من غير أن يقول شيئا. وكانت أمي تشيّعني كلما ذهبتُ إلى المدرسة حزينة دامعة العين، وتقبّلني بشوق وحرقة، ثم لا تشبع مني، فتدعوني فتقبلني مرة ثانية، ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سببا. ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق كأني كنت غائبا عنها عشرة أعوام. وكنت أرى والديّ يبتعدان عني، ويتكلمان همسا بلغة غير اللغة الإسبانية لا أعرفها ولا أفهمها. فإذا دَنَوْتُ منهما قطعا الحديث وحوّلاه، وأخذا يتكلمان بالإسبانية، فأعجب وأتألم، وتُساور نفسي الظنون.. حتى إني لأحسب أني لست ابنهما، وأني لقيط جاءا به من الطريق، فيشْتدّ ألمى، فآوي إلى ركن في الدار منعزل، فأبكي بكاءً مرًّا.
وتوالت عليّ الآلام فأورثتني مِزاجا خاصا يختلف عن أمزجة الأطفال الذين كانوا في مثل سني، فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أَعْتزِلُهم وأذهب فأجلس وحيدا أضع رأسي بين كفّيّ، وأستغرق في تفكيري أحاول أن أجد حلا لهذه المشكلات حتى يجذبني الخورى من كم قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة..
و قد حدث أن ولدت أمي طفلا، فلما بشّرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل لم يبتهج، ولم تَلُحْ على شفتيه ابتسامة، ولكنه قام بجر رجليه حزينا ملتاعا، فذهب إلى الخوري، فدعاه ليعمّد الطفل. وأقبل يمشي وراءه، وهو مطرق برأسه إلى الأرض، وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي، فرأيت وجهها يشحب شحوبا هائلا، وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه بالطفل خائفة حذرة، ثم تغمض عينيها. فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألما على ألمي. حتى إذا كانت ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في النور، والحمراء تتلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان تومض على شرفاتها ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل، وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتا إلى غرفته، إلى حرمه المقدّس، فخفق قلبي خفوقا شديدا واضطربتُ، لكني تماسكت وتجلّدت..
فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج، وبقيت واقفا في الظلام لحظات كانت أطول عليّ من أعوام، ثم أشعل سراجا صغيرا كان هناك، فتلفتّ حولي فرأيت الغرفة خالية ليس فيها شيء مما كنت أتوقع رؤيته من العجائب، ما كان فيها إلا بساط وكتاب موضوع على رف، وسيف معلق بالجدار. فأجلسني على هذا البساط، ولبث صامتا ينظر إليّ نظرات غريبة اجتمعت عليَّ هي ورهبة المكان وسكون الليل، فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب، وانتقلت إلى دنيا أخرى لا أستطيع وصف ما أحسست به منها. ثم أخذ أبي يديَّ بيديه بحنوّ وعطف، وقال لي بصوت خافت: يا بني، إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلا. وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك.. فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين..؟؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرّض أباك إلى عذاب الجلادين من رجال ديوان التفتيش . فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفتُ من مَفْرِق رأسي إلى أَخْمَص قدمي.. لقد كنت صغيرا حقا، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش، وأرى ضحاياه كل يوم، وأنا غادٍ إلى المدرسة ورائحٌ منها فمن رجال يُصْلَبون أو يُحْرَقون، ومن نساء يعلَّقْن من شعورهن حتى يمتن أو تُبْقَر بطونهن، فسكتُّ ولم أجب.. فقال لي أبي: مالك لاتجيب..؟ أتستطيع أن تكتم ماسأقوله لك..؟؟ قلت: نعم قال: تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك..؟؟ قلت:نعم
قال: اقترب مني.. وأرهفْ سمعك جيدا، فإني لا أقدر أن أرفع صوتي.. أخشى أن تكون للحيطان آذان فَتَشِيَ بى لدى ديوان التفتيش، فيحرقني حيا.. فاقتربت منه وقلت له: إني مُصْغٍ يا أبت.. فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف وقال: أتعرف هذا الكتاب يا بنيّ..؟؟
قلت: لا.. قال: هذا كتاب الله. قلت: الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع بن الله..!؟
فاضطرب وقال: كلا، هذا هو القرآن الذي أنزله الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، على أفضل مخلوقاته، وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله.. النبي العربي صلى الله عليه وسلم.. ففتحت عينيَّ من الدهشة، ولم أكد أفهم شيئا.
قال: هذا كتاب الإسلام.. الإسلام الذي بعث الله به محمدا إلى الناس كافة، فظهر هناك وراء البحار والبوادي في الصحراء البعيدة القاحلة، في مكة في قوم بداة مختلفين مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد، وأعطاهم به الاتحاد والقوة.. والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب، حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة، إلى إسبانيا، فعدلوا بين الناس، وأحسنوا إليهم، وأمّنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمائة سنة.. ثمانمائة سنة.. جعلوها أرقى وأجمل بلاد الدنيا.. نعم يا بني نحن العرب المسلمين.
فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف، وصحت به: ماذا..؟ نحن..؟ العرب المسلمين..؟ قال: نعم يا بني.. هذا هو السر الذي سأفضي به إليك.. نعم نحن.. نحن أصحاب هذه البلاد.. نحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا.. نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرتفع فيها صوت المؤذن.. فصار يُقرع فيها الناقوس.. نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفوفَا بين يدي الله، وأمامهم الأئمة يتلون في المحاريب كلام الله، فصارت كنائس يقوم فيها القسوس والرهبان يرتلون فيها الإنجيل.
نعم يا بني، نحن العرب المسلمون، لنا في كل بقعة من بقاع إسبانيا أثر، وتحت كل شبر منها رفاتِ جَدٍّ من أجدادنا، أو شهيد من شهدائنا.. نعم نحن بنينا هذه المدن.. نحن أنشأنا هذه الجسور. نحن مهّدنا هذه الطرق.. نحن شققنا هذه الترع.. نحن زرعنا هذه الأشجار.
ولكن منذ أربعين سنة.. أسامع أنت..؟؟ منذ أربعين سنة.. خُدِع الملك البائس أبو عبد الله الصغير، آخر ملوكنا في هذه الديار، بوعود الإسبان وعهودهم، فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباح لهم حِمَى أمّته ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى برّ المغرب ليموت هناك وحيدا فريدا شريدا طريدا.. وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال، فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشأوا ديوان التفتيش، فأُدْخِلْنا في النصرانية قسرا، وأُجْبِرْنا على ترك لغتنا إجبارا، وأخذوا منا أولادنا لينشّئوهم على النصرانية.. فذلك سر ما ترى من استخفائنا بالعبادة، وحزننا على ما نرى من أمتهان ديننا، وتكفير أولادنا...!
أربعون سنة يا بني، ونحن صابرون على هذا العذاب الذي لا تحتمله جلاميد الصخر، ننتظر فرج الله، لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا، دين القوة والصبر والجهاد.. هذا هو السر يا بني فاكتمه، واعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك، ولست والله أخشى الموت أو أكره لقاء الله.. ولكني أحب أن أبقى حيا حتى أعلّمك لغتك ودينك وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، فقم الآن إلى فراشك يا بني.
صرت من بعد ذلك كلما رأيت شرف الحمراء أو مآذن غرناطة تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق والحزن، والبغض والحب، يغمر فؤادي. وكثيرا ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت أطوف بالحمراء وأخاطبها وأعاتبها وأقول لها: أيتها الحمراء، أيتها الحبيبة الهاجرة، أنسيت بُناتَك وأصحابك الذين غذَّوْكِ بأرواحهم ومُهَجِهم، وسقَوْكِ دماءهم ودموعهم، فتجاهلتِ عهدهم وأنكرتِ وُدّهم..؟؟ أنسيتِ الملوك الصِّيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال، والأبهة والجمال، أولئك الأعزّة الكرام الذين إن قالوا أصْغت الدنيا، وإن أمروا لبّى الدهر..؟؟ أألفْتِ النواقيس بعد الأذان..؟؟ أرضيت بعد الأئمة بالرهبان؟
ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان، فأسرع الكرّة إلى الدار لأحفظ درس العربية، الذي كان يلقيه عليّ أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي، فيكتب لي حذاءه [ يعنى بجانبه] الحرف العربي، ويقول لي: هذه حروفنا.. ويعلمني النطق بها ورسمها، ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة.. وكان الخوف من أن أزلّ فأفشي السر لا يفارقه أبدا.. وكان يمتحنني فيدسّ أمي إليّ فتسألني: ماذا يعلمك أبوك؟
فأقول: لاشيء.. فتقول: إنْ عندك نبأ مما يعلمك، فلا تكتمه عني.
فأقول: إنه لا يعلمني شيئا.
حتى أتقنتُ العربية، وفهمت القرآن، وعرفت قواعد الدين، فعرّفني بأخٍٍٍ له في الله، نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا.
واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية الباقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوبا، أو مُحرقا بالنار حيا، ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم، وهم يرون ذلك بأعينهم، ويُسْقَوْن الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتُكوى أرجهلم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم، ويجلدون حتى يتناثر لحمهم.. واستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا، وإني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة فأفوز بها فوزا عظيما، ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر، وحمّلتك الأمانة الكبرى، التي كدت أهوي تحت أثقالها.. فإذا أصابني أمر فأطِعْ عمك هذا ولا تخالفه في شيء..
ومرّت على ذلك أيام، وكانت ليلة سوداء، عندما جاء عمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد يسّر الله لنا سبيل الفرار إلى المغرب بلد المسلمين فأقول له: وأبي وأمي..؟ فيعنُفُ عليّ ويشدُّني من يدي ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي..؟ فأمضي معه صاغرا كارها، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشمِلَنا الظلام، قال لي: اصبر يا بُنيّ، فقد كتب الله لوالديك المؤمنين السعادة على يد ديوان التفتيش."...!
يخلص الغلام إلى بر المغرب ويكون منه العالم المصنف سيدي محمد بن عبد الرفيع الأندلسي، وينفع الله به وبتصانيفه... انتهت قصة محمد الصغير كما أوردها الشيخ على الطنطاوى فى كتابه... لا ليستدرّ بها الدموع إنما ليحذر المسلمين اليوم من مصير تدبّره لهم عصابات السوء وقطاع الطرق المتشحين بلباس الكهنوت..
(3) لقد شاء الله أن أستمع فى حياتى الطويلة إلى قصص مشابهة بنفسى فى الفلبين، واستمعت فى بلاد أوربا قصصا على لسان ضحايا من البوسنة والهرسك وكوسوفا وصربيا، ومن الاتحاد السوفياتى.. وسمعت كثيرا من رجال ونساء يخفون إيمانهم بالاسلام، خشية التنكيل بهم وبأسرهم واستراليا وألمانيا و هنا فى مصر..لو بدأت فى سردها لما انتهيت فى مائة مقالة.. وما كنت أتصور أن يحدث هذا فى مصر ولكنه للأسف يحدث..! إليك عينة واحدة مما صادفنى: حدث أن ذهبت مرة لصلاة العصر فى مسجد صغير قريبٍ من مسكنى.. وبعد أن انتهيت من الصلاة التفت إلى من كان يصلى بجوارى فرأيت شابا أعرفه معرفة جيدة فهو صاحب محل لبيع الأدوات المدرسية ولديه ماكينة تصوير وجهاز كمبيوتر اعتدت على مدى سنوات أن أصور عنده أصول مقالاتى وأستعين به فى كتابتها على جهازه.. أعرف أنه مسيحي ولكنه يتقن عمله بصمت.. ويحسن الحوار والكلام.. ويتطرق إلى موضوعات ثقافية جادة.. عجبت أن أراه فى المسجد يصلى وقد أطلق لحية خفيفة .. قلت له ألست (فلانا) ..؟ قال نعم أنا هو..؟ قلت متى أسلمت ..؟ قال منذ خمس سنوات.. ٍسألته ولكنك لم تكن تأتى إلى المسجد, وحتى لم تكن تتطرق فى الحديث معى إلى اعتناقك للإسلام .. قال: لم يكن الوقت قد حان بعد لإعلان أسلامى.. قلت وما الذى جدّ..؟ قال لقد تُوُفّي أبى، وكان معتل الصحة لفترة من الوقت .. يعنى كان يمكن أن يموت بصدمة قلبية لو علم أننى أسلمت.. فأشفقت عليه وكتمت إيمانى عنه.. فلما توفاه الله أصبحت فى حل من أمرى وأردت أن أصلى وأصوم مع إخوانى المسلمين فى العلن، وأنتهى من حالة التخفى والعبادة سرا بين جدران غرفتى الصغيرة .. ابتسمت وقلت له مازحا: ما الذى دهاك يارجل لتسلم فى هذا الزمن الذى أصبح فيه المسلمون ضعفاء ومضطهدين فى كل مكان بالعالم.. قال ببساطة وجدية : أنا عندما اقتنعت بعقيدة التوحيد لم أكن أفكر فى ضعف المسلمين أوقوتهم، ولم يكن هذا ليغير من اقتناعى فى شيء.. فقد كنت أفكر فقط فى إرضاء الله والتقرب منه بالطريقة التى ارتضاها وبينها فى كتابه وبعث بها رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم...
سألته: ألم تصادف مضايقات أومشكلات من الأسرة ومن أصدقائك.. وهل اضطررت إلى اللجوء للشرطة لحمايتك...؟ قال لقد صادفت كثيرا من المشاكل و تجاوزتها والحمد لله.. ولكنى لم أكن فى حاجة للجوء إلى الشرطة لحمايتى.. سالته: ربما كان لك من سنك ونضج تجربتك فى الحياة أنك استطعت مواجهة هذه المشكلات وتجاوزتها.. ولكنى سمعت أن رجال الأمن لا يرحبون بأمثالك قال: نعم ..أعرف ذلك وأستغربه .. لقد حاول صديق لى مسيحى أسْلَم أن يلتمس لديهم الأمن من تهديدات وُجِّهت إليه من عصابة من الشباب المسيحي .. فهل تعلم ماذا فعل به ضابط القسم..؟! لقد أشبعه ضربا على وجه وركله بحذائه وهو يسبه بأقذع السباب.. ثم قال له: عُد إليهم ياإبن ال[...] ولا ترينى وجهك مرة أخرى .. لآ تجلب علينا المصائب...! .. ثم أضاف الشاب: هذه عينة واحدة مما يفعله الأمن بمن يعتنق الإسلام من المسيحيين...! قلت له: هل تأكدت أن الضابط كان مسلما..؟ قال: أنا متأكد أنه مسلم على الأقل بالاسم...!
وإنا لله وإنا إليه راجعون... [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.