وزير التنمية المحلية يُهنئ الرئيس السيسي بمناسبة الاحتفال بعيد العمال    محافظ القاهرة: القيادة السياسية تحرص على الاهتمام بالتعليم الفني    قيادي بمستقبل وطن: عمّال مصر هم عمود الدولة    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    أسعار الخضراوات اليوم 30 أبريل في سوق العبور    أيمن الجميل: إنجازات الطاقة النظيفة والزراعة الحديثة والاقتصاد الأخضر قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية    تراجع مؤشرات البورصة المصرية مع بداية تعاملات اليوم 30 أبريل    جهاز مشروعات التنمية الشاملة ينظم احتفالية لحصاد حقول القمح المنزرعة بالأساليب الحديثة    وزير الإنتاج الحربي يتفقد خطوط شركة أبو زعبل للصناعات الهندسية    خطوات ل فحص السيارة المستعملة قبل شراءها ؟    مدبولي: المباحثات مع رئيس وزراء بيلاروسيا تطرقت لتعزيز التبادل التجاري    صحيفة أمريكية: الناتو يستعد لمواجهة روسيا والتغلب على مشاكله الخاصة    الدفاع المدني الفلسطيني: لا بديل عن إنهاء المأساة الإنسانية في غزة    مساعد وزير الخارجية الأسبق: الجهد المصري لا يتوقف لتهدئة الأوضاع في غزة    أول زيارة رسمية.. بدء جلسة المباحثات المصرية البيلاروسية برئاسة رئيسي وزراء البلدين    تاريخ مواجهات ريال مدريد وبايرن ميونخ قبل موقعة اليوم في دوري الأبطال.. تفوق بافاري    رئيس الزمالك يعلن استمرار زيزو وعواد مع الفريق ويشيد بفتوح    الزمالك يلتقي بطل السنغال ببطولة إفريقيا للطائرة سيدات    فالفيردي: جاهز لمواجهة بايرن ميونيخ    القيعي: يجب تعديل نظام المسابقات.. وعبارة "مصلحة المنتخب" حق يراد به أمور أخرى    تحرير 149 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    السجن 10 سنوات ل6 أشخاص بالإسكندرية بتهمة استعراض القوة    ضبط 8 أطنان لحوم ودواجن وأسماك فاسدة بالمنوفية    ضربات أمنية مستمرة لضبط مرتكبي جرائم الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    أول بيان من «الداخلية» عن أكاذيب الإخوان بشأن «انتهاكات سجن القناطر»    وفد شركات السياحة المصرية بالسعودية يكشف تفاصيل الاستعداد لموسم الحج    المؤبد ل عاطل بتهمة حيازة «مخدر الميثامفيتامين» في الجيزة (تفاصيل)    ختام عروض الإسكندرية للفيلم القصير بحضور كامل العدد    تكريم نقيب الممثلين على هامش الصالون الثقافي لرئيس جامعة المنصورة    «بنك مصر» يشارك الأطفال احتفالهم بيوم اليتيم في 15 محافظة    مستشار زاهي حواس يكشف سبب عدم وجود أنبياء الله في الآثار المصرية حتى الآن (تفاصيل)    ساويرس يوجه رسالة مؤثرة ل أحمد السقا وكريم عبد العزيز عن الصديق الوفي    لحظة إشهار الناشط الأمريكي تايغ بيري إسلامه في مظاهرة لدعم غزة    هيئة الدواء تنصح الأهالي بالالتزام بمواعيد حصول الأطفال على التطعيمات الأساسية    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    هل الأسماك المملحة خطر فقط على مرضى ضغط الدم؟.. «بحوث الأغذية» تجيب    عملية طعن تستهدف شرطيين وعددا من المارة قرب محطة للمترو شمال شرق لندن    رئيس جامعة بنها يفتتح معرض الزهور الأول احتفالا بأعياد الربيع    رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورنا يحسم الجدل بشأن حدوث جلطات بعد تلقي اللقاح    "صدى البلد" يحاور وزير العمل.. 8 مفاجآت قوية بشأن الأجور وأصول اتحاد عمال مصر وقانون العمل    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    أقدس أيام السنة.. كيف تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بأسبوع آلام السيد المسيح؟    وزير الإسكان: نعمل على الاستثمار في العامل البشري والكوادر الشبابية    مصادر: من المتوقع أن ترد حماس على مقترح صفقة التبادل مساء الغد    طلاب النقل الثانوى الأزهرى يؤدون امتحانات التفسير والفلسفة والأحياء اليوم    اليوم.. "الصحفيين" تفتتح مركز التدريب بعد تطويره    إمام: شعبية الأهلي والزمالك متساوية..ومحمد صلاح أسطورة مصر الوحيدة    مساعد وزير الصحة: قطعنا شوطًا كبيرًا في تنفيذ آليات مواجهة تحديات الشراكة مع القطاع الخاص    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    الطيران الحربي الإسرائيلي يشن سلسلة غارات عنيفة شرق مخيم جباليا شمال غزة    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    أخبار 24 ساعة.. وزير التموين: توريد 900 ألف طن قمح محلى حتى الآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مأساة كامليا ومأزق الكنيسة [2]
نشر في المصريون يوم 27 - 09 - 2010

(1) أوافق الأستاذ محمود سلطان على ما جاء فى نهاية مقاله كخلاصة مفيدة: أن قيادات الكنيسة بإظهار المسكنة والنعومة إنما تسعى إلى صرف الرأى العام عن القضية الحقيقية للسيدات: وفاء قسطنطين وكامليا شحاتة ومارى عبد الله، وأخواتهن اللاتى أسلمن ولكن قامت جهات فى السلطة بتسليمهن للكنيسة لتفعل بهن الأفاعيل.. أوافقه على أن لب القضية ليس كما يحاول بعض قادة الكنيسة تصويرها فى الإعلام بأنها مجرد إسلام امرأة كانت نصرانية أو تنصّر إمرأة كانت مسلمة، وما قد يترتب على ذلك من اضطرابات عادية أسرية أو اجتماعية .. المشكلة فى صميمها قانونية ودستورية وإنسانية وأخلاقية.. وفيها تجاوز واجتراء واضح على سلطة الدولة وقوانينها.. ما فعلته الكنيسة بهؤلاء الأسيرات المستضعفات جريمة لا يمكن تبريرها ولا الاستهانة بها.. ولا يمكن ولا يجب أن تمر بدون عقاب ووضع جميع المسئولين عنها أمام المحكمة للاقتصاص منهم، وإعادة حقوق الأسيرات فى الحرية والحياة الطبيعية .. فلا أحد يعرف مصيرهن فى هذه الحظة، وقد تتكشف الأوضاع عن جرائم قتل وعمليات تعذيب مروّعة لا يعلم مداها إلا الله ...!
(2) لقد بلور الدكتور محمد سليم العوّا (فى برنامج متلفز على قناة الجزيرة لبّ) القضية وكشف عن أبعادها القانونية والدستورية وآثارها الخطيرة على الأمن القومى لمصر.. وهو أستاذ القانون الخبير الذى يزن كل كلمة ينطقها بميزانها الصحيح، وقد أضاف إلى القضية جريمة تهريب أسلحة من إسرائيل إشارة إلى السفينة التى تم اكتشافها والقبض على صاحبها وهو إبن قسيس فى كنيسة.. مما يدعم الفكرة الشائعة منذ فترة من الزمن أن الكنائس ولأديرة تحولت إلى معاقل مدججة بالسلاح إستعدادا لحرب إبادة لاقتلاع المسلمين[ الضيوف] من مصر.. ولذلك طالب الدولة أن تنهض بمسئوليتها فى فتح الكنائس والأديرة للتحقّق من الأمر قبل فوات الأوان...
(3) سأفترض افتراضا أن كل مايقال عن تخزين الأسلحة وعن القتل والتعذيب الجارى على الأسيرات المسلمات كله غير صحيح.. فهل يكون الصحيح هو الموقف الكنسي المستعلى والمستخفّ كما تعبر عنه تصريحات البابا ومساعديه، وإنكار مطلق لأى حق للرأى العام أن يعرف مصير أناس احتجزتهم الكنيسة ومارست عليهم سلطات لا يصح أن تملكها أو تدّعى ملكيّتها...؟! ومما يعزز شكوك الرأى العام فى موقف الكنيسة ونواياها ذلك الرفض القاطع للبابا تنفيذ أحكام للمحكمة الإدارية العليا.. كأنه هو دولة أخرى غير مصر ، إضافة إلى التصريحات الجاهلة الغبية لبعض قادة الكنيسة الذين لا يخجلون من ترديد أن المسلمين ضيوف على النصارى أصحاب البلد.. ثم الخوض فى سلامة الآيات القرآنية والتشكيك فى التنزيل وكتابة المصحف.. حيث يتساءل الأنبا بيشوى مستنكرا: هل أضيفت آيات كذا وكذا فى عهد عثمان لم تكن موجودة فى القرآن عندما [ قاله ] محمد ...؟! وتأمّل بإمعان فى تعبيره بكلمة [قاله] بدلا من: قرأه أو ألقاه ... فى كلمة واحدة يكشف الرجل عن حقيقة ما يدور فى عقول هؤلاء الناس: إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنكار الإسلام كدين منزّل، وإنكار القرآن ككلام لله وإنما مجرد كلام اخترعه محمد، وحتى عثمان الخليفة الثالث فى نظر بيشوى لم يحترم كلام محمد فأضاف إليه من عنده آيات جديدة .. ثم يستغرب بعد ذلك كيف أن المسلمين يعتبرونه كافرا .. ألست كافرا بنبوة محمد وكافرا بالقرآن...؟! لقد حكمت على نفسك أنت بمنطوق عبارتك ، ولست فى حاجة إلى من يصمك بالكفر، فقد وصمت نفسك بنفسك .. وكذلك يصف النصارى المسلمين بأنهم كفار، وتلك مسألة يمكن فهمها والتعايش معها بسلام فى وطن واحد، [ لا أعبد ماتعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين].. أنا لاأومن بدينك ولكنى أحترمك ولا أسخر من دينك، وأنت لا تؤمن بدينى ولكنى أتوقع منك أن تحترمنى وألا تسخر من دينى وتفترى عليه، وألا تقل لى أنى مجرد ضيف عندك، ولست مواطنا مثلك.. بهذه المعادلة عاش المسلمون والنصارى فى مصر بسلام عبْر أربعة عشر قرن مضت من الزمن.
ولكن الذى يحدث الآن من جانب القيادات الكنسية المستعلية هو عملية استقواء وتخريب لهذه العلاقات الوطنية والإنسانية العميقة الجذور .. ويبدو أن قضية الوطنية والمشاركة فى المصير الواحد بين النصارى والمسلمين لم تعد قضية ذات اعتبار فى ظل الأيديولوجية الجديدة التى يراد فرضها قهرا على النصارى قبل المسلمين.. وأكاد أشم فيها رائحة حرب تطهير عرقى للمسلمين فى مصر، على غرار النموذج الذى شاهدناه فى البوسنة وكوسوفا خلال تسعينات القرن العشرين.. فالأفكار التى يروّج لها اليوم بعض قادة متطرّفين فى الكنيسة.. تشبه نفس الأفكار التى أشاعتها القيادات الدينية والسياسية الصربية المتطرفة فى يوغسلافيا ضد المسلمين فى ثمانينات القرن الماضى، وهى التى مهّدت لحرب الإبادة فى التسعينات، ومن ثم تمزقت يوغسلافيا واندسرت إلى الأبد...!
(4) الأمر برغم كل ما حصل لم يصل بعدُ إلى طريق اللاعودة، فلا يزال الحل ممكنا وواضحا .. وقد أشرت إليه فى خاتمة مقالتى السابقة: رؤية الواقع السكانيّ فى مصر على حقيقته وفى إطاره التاريخي الصحيح وليس كما يتبدى لبعض العقول فى أوهامها وهلوساتها المرضية.. أخرجوا السيدة كامليا، والسيدة مارى عبد الله، والسيدة وفاء قسطنطين إلى النور إن كانت لا تزال حية .. فإن كانت قد قتلت فعلا فيجب أن يقدّم المسئول عن جريمة القتل للمحاكمة .. وليكفّ القساوسة المتطرفون عن تصريحاتهم الغبية حول الإسلام والنبى والقرآن فهم لا يكشفون إلا عن جهلهم وعجزهم عن فهم التاريخ والحضارة الإنسانية التى بناها هذا الإسلام (بلا سابقة ولا لاحقة) على مبادئ الأخلاق والعدالة والمساواة بين جميع البشر الذين كرمهم الله فى قرآنه، وعاشت فى ظلها بحرية كل الأجناس والأعراق البشرية، والأديان كلها ما كان منها منسوبا إلى السماء إوإلى الأرض، لا فرق ولا تمييز ولا عبودية..
(5) سألنى بعض القراء ماهى حكاية محاكم التفتيش الكنسية الى ذكرتها فى مقالتك السابقة.. وأحاول أن أوضح المسألة قدر الاستطاعة فيما يلى:
كانت محاكم التفتيش هيئات أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية للقبض على الأشخاص المشتبه فى معارضتهم لتعاليم الكنيسة ومحاكمتهم. أقيمت هذه المحاكم في كثير من بلاد أوروبا، ولكن كان أكثرها شهر محكمة التفتيش الأسبانية التى أقيمت بعد انهيار دولة المسلمين فى الأندلس.. وبداية حكم الملك فرديناند الخامس وزوجته إيزابيللا وكان عمل المحكمة هو التجسس على أهل الأندلس المسلمين الذين تم تنصيرهم قسرا، والتنكيل الوحشى بهم..
ويجب أن نتذكر أن تعاليم الكنيسة منذ بدايتها فى أوربا ابتداءً من حكم الإمبراطور الروماني قسطنطين (306-337م)، كانت هى أساس القانون والنظام فى الإمبراطورية الرومانية، وكان الخروج عليها يعتبر جريمة ضد الدولة.. وفي عام 1231م أنشأ البابا جريجوري التاسع محكمة خاصة للتحقيق مع المتهمين وإجبار المهرطقين على تغيير معتقداتهم.. وبعد نحو قرنين من الزمن تولت لجنة الكرادلة التابعة للمكتب البابوي عمليات التحقيق.. وتكاثرت محاكم التفتيش في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، وكان التعذيب وسيلة اعتيادية جدا فى تلك المحاكم، ومنه حرق المحكوم عليهم أحياءً.. إلا أن ما حدث للمسلمين فى الأندلس قد بلغ من بشاعته حدا يصعب وصفه بالكلام .. فقد امتد تعذيبهم قرونا لا أياما ولا سنوات .. وتلك حقيقة تاريخية صادمة .. الذين خضعوا لهذا التعذيب كان يطلق عليهم إسم (المورسكيون) وهى تسمية للمسلمين الذين أجبرتهم الكنيسة تحت إرهاب محاكم التفتيش على التنصر، ومع ذلك كانت تشك فى حقيقة تنصرهم وتعتقد أنهم يمارسون عبادتهم الإسلامية سرا .. ومن ثم لا يجب الوثوق فى تظاهرهم بالمسيحية.. وترتّب على ذلك توالى صدور أوامر من الدولة للحد من حرية المورسكيين وتقييد هم بمزيد من القيود: منها حظر التحدث بالعربية فى مجالسهم الخاصة وحظر الختان، وحظر الوقوف تجاه القبلة، وحظر الاستحمام والاغتسال، وحظر ارتداء الملابس العربية. ولما وجدت محكمة تفتيش غرناطة بعض المخالفات لهذه اللوائح عمدت إلى إثبات تهديدها بالفعل، وأحرقت اثنين من المخالفين أمام الجمهور...
وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا وأصدر مرسوما سنة 1808 م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الأسبانية.
(6) ولنستمع إلى هذه القصة التي يرويها لنا أحد ضباط الجيش الفرنسي الذي دخل إلى أسبانيا بعد الثورة الفرنسية هو الكولونيل ليموتسكي .. قال:
"كنت سنة 1809 ملحقا بالجيش الفرنسي الذي يقاتل في إسبانيا، وكانت فرقتي ضمن فرق الجيش الذي احتل مدريد ... وقد دأب الرهبان الكاثوليك أصحاب ديوان التفتيش على قتل كل فرنسي يقع في أيديهم انتقاما من القرار الصادر ضدهم . وبينما كنت أسير مرة في إحدى الليالي عابرا شارع من شوارع مدريد يقل المرور فيه إذ باثنين مسلحين يهجمان عليّ يريدان قتلي، فدافعت عن حياتي دفاعا شديدا، ولم ينجّني من القتل إلا قدوم سَرِيّة من جيشنا اعتادت أن تحمل المصابيح وتبيت الليل ساهرة على حفظ النظام.. فما إن شاهدها القاتلان حتى لاذا بالهرب. وتبين من ملابسهما أنهما من جنود ديوان التفتيش.. فأسرعت إلى المارشال سولت الحاكم العسكري لمدريد وقصصت عليه النبأ، ققال: لا بد من معاقبة هؤلاء الأشرار وتنفيذ قرار الإمبراطور بحل ديوانهم.. والآن خذ معك ألف جندي وأربع مدافع وهاجم دير الديوان واقبض على هؤلاء الرهبان الأبالسة".
ثم يتابع قائلا: "أصدرتُ الأمر لجنودي بالقبض على القساوسة جميعا وعلى الحراس من جنودهم توطئةً لتقديمهم إلى مجلس عسكري، ثم أخذنا نبحث فى غرف الدير بين كراسيّ هزازة وسجاجيد فارسية وصور ومكاتب كبيرة.. وقد لا حظنا أن أرض الغرف مصنوعة من الخشب المصقول المدهون بالشمع. وكان شذى العطر يعبق فى أرجائها فتبدو الساحة كلها أشبه بأبهاء القصور الفخمة التي لا يسكنها إلا ملوك قصروا حياتهم على الرفاهية واللهو...
وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب.. لقد فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها، فلم نجد شيئا يدل على وجود ديوان للتفتيش، فعزمنا على الخروج من المكان يائسين...
(7) كان الرهبان أثناء التفتيش يُقْسِمون ويؤكدون لنا أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهما باطلة، [ وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس توشك عيناه أن تطفرا بالدموع]، فأصدرت أوامرى للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير.. لكن اللفتنانت دي لِيِلْ استمهلني قائلا: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنتهِِ بعد ..؟! قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئا مريبا. فماذا تريد يا لفتنانت..؟ قال: إنني أرغب فى فحص أرضية هذه الغرف، فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها.. عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة. وكنا نرقب الماء، فإذا بالأرض في إحدى الغرف قد ابتلعته.. فصفق الضابط دي ليل من شدة الفرح وهتف قائلا: ها هو الباب، انظروا.. فنظرنا فإذا بباب قد انكشف.. كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب أحد قوائم مكتب رئيس الدير.. أخذ الجنود يكسرون الباب بكعوب البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها غبرة.. ثم فُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين.. ولما هممت بالنزول وضع راهب يسوعى يده على كتفي متلطفا، وقال لي: يابني.. لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال..إنهاشمعة مقدسة...! فقلت له: يا هذا إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء.. وسنرى الآن من هو النّجس فينا، ومن القاتل السفاك...؟!
(8) هبطت على دَرَج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، يسمّونها قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام به حلقة حديدية ضخمة، رُبِطَتْ بها سلاسل مُعَدّة لتقييد المحاكمين بها.. وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء.. ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض.. فرأيت فيها ما يستفز نفسي ويبعث فيّ القشعريرة والتقزز طوال حياتي. رأينا غرفا صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفا على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممدا بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، فتأكله الديدان... ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي.. وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها.. وكان السجناء رجالا ونساءً تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين.. استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء وتحطيم أغلالهم، وهم في الرمق الأخير من الحياة.. كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب. وكان السجناء جميعا عرايا حتى اضْطُرّ جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعضهم .. أخرجنا السجناء إلى النور تدريجيا حتى لا تذهب أبصارهم.. كانوا يبكون فرحا، وهم يقبّلون أيدي وأرجل الجنود الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب وأعادوهم إلى الحياة.. كان مشهدا يبكي الصخور.
ثم انتقلنا إلى غرف أخرى فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان.. عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب منها آلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري. كانوا يبدأون بسحق عظام الأرجل ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا حتى يتهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة والدماء الممزوجة باللحم المفروم.. وهكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين.. ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تماما يوضع فيه رأس المحكوم عليه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يتمكن من الحركة.. وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، نقطة في كل دقيقة.. وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المُعَذَّبُ على حاله تلك حتى يموت.. وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة.. كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره.. فإذا تمّ إغلاقه مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إِرْبًا.. كما تم العثور على آلات كالخطاطيف تغرز في لسان المعذب ثم تُشد ليخرج اللسان معها، فيتم قصّه قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين.. وتم العثور على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم"... [إقرأ إن شئت المزيد عن هذه الأهوال كتاب محمد عبد الله عنان: نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصّرين...] لتعرف حقيقة محاكم التفتيش التى أشرت إليها فى مقال سابق ثم اسأل نفسك: هل نحن بعيدين عن محاكم التفتيش...؟! أم أنها تعمل بين ظهرانينا ونحن لا ندرى..؟! من ينكر هذا عليه أن يثبت بالعمل لا بالمكابرة والادعاء و إعلان التمرد على قوانين الدولة... فليفتح أبواب الأديرة للتفتيش.. وليثبت للدنيا كلها براءته.. ويثبت أن الأديرة خالية من الأسلحة وخالية من التعذيب وخالية من السجناء والمحتجزين .. وليطلق سراح المسلمات المحتجزات: وفاء قسطنطين وكامليا ومارى عبد الله وغيرهن...
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.