لعل مؤرخي المستقبل وحدهم هم من سوف يضعون عملية الاستفتاء الأخيرة في تركيا في موقعها الصحيح من تاريخ تركيا الحديث؛ فهم من سوف يتسنى لهم وصل الحدث بماضيه واستجلاء ما سوف يتبعه في المستقبل. وإلى حين أن يتم هذا يمكننا القول أن ما حدث يوم الأحد في تركيا واحد من أهم الإنجازات السياسية في تاريخها الحديث؛ فمع أن الأمر هو مجرد إقرار حزمة إصلاحات دستورية، إلا أن دلالاته تشي بتغييرات عميقة وبتوقعات كبيرة. تحولات كبيرة في تركيا أسس أتاتورك تركيا الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية في عام (1923) . أتاتورك ذلك الرجل الذي كان قائدًا للجيش ثم أضحى رجل دولة، والذي حددت ثورته العلمانية الراديكالية مسار تركيا لبقية القرن العشرين؛ فقد نَفَّذَ تحولات جذرية، وفصل الدين عن الدولة، وغَيَّرَ الحروف الهجائية من العربية إلى اللاتينية، ووجَّه البلاد نحو الغرب. خاصمت تركيا الحديثة على طريقة أتاتورك هوية وثقافة مجتمعها في سبيل التحديث؛ فالعلمانية التي أريد لها أن تمهد الطريق للحداثة استخدمت أدوات الدولة في سبيل فرض علمنة قسرية على المجتمع. ولم تقنع العلمانية الأتاتوركية بتحييد الدين عن مؤسسات الدولة وآليات عملها، بل سعت – باستخدام هذه المؤسسات - إلى طمس قيمه ومبادئه من ثقافة المجتمع ككل . وبالفعل، شهدت أنماط وأوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تركيا تغييرًا كبيرًا منذ العشرينيات من القرن العشرين، وذلك عند قيام نظام الحكم الجمهوري الحديث. وعَيَّنَ الجيش والقضاة وبيروقراطيو الدولة أنفسهم أوصياء على هذا الإرث، واعتبر الجيش بمثابة الحامي للنظام العلماني في البلاد، ومثّل الجيش رأس الحربة في صدّ أي محاولة لتغيير طبيعة نظام الحكم في تركيا، وللحفاظ على سيطرة الصفوة العلمانية على السلطة. ولكن مع صعود حزب العدالة والتنمية تغير هذا الصرح المتين، فقد كان هذا الصعود مؤشرًا وداعمًا في نفس الوقت على صعود الطبقة المتوسطة من المسلمين المتدينين، الذين شكَّلوا القاعدة الاجتماعية للحزب. ويرجع الفضل في صعود هذه الطبقة إلى السياسات الاقتصادية الفعَّالة التي انتهجها حزب العدالة والتنمية. حَوَّلَ حزب العدالة والتنمية تركيا لواحدة من أسرع الاقتصاديات نموًّا في العالم؛ بفضل إصلاحات تضع نصب أعينها السوق، كما ارتفع إجمالي الناتج المحلي ثلاثة أمثاله في السنوات الثماني الأخيرة. أفرزت تلك السياسات الاقتصادية تغيرات وتحولات اجتماعية جذريَّة؛ وتراجع دور الجنرالات ورجال السياسة المتناحرين وصعد إلى مراكز قيادية أتراكٌ متدينون كان يُنظر إليهم لفترة طويلة كطبقة أدنى في المجتمع. لقد كان صعود الطبقة الوسطى المتدينة بمثابة "ثورة متدرجة"، إلا أن تكريس مشاركة هذه الطبقة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان في حاجة إلى شرعية قانونية تسمح لهؤلاء بالسريان والتغلل في النظام السياسي التركي. ومن هذا المنطلق كانت الحاجة إلى الإصلاحات القانونية والدستورية التي لم تكن تحمل قط مضمونًا إسلاميًا، بل تتجه إلى فتح المجالات وإزالة الحظر الموجود على كل ما أومن في علمانيته ريبة . شرعت تركيا في بحثٍ جديدٍ عن الهوية، وبالفعل فقد بدأت تتشكل. وتأتي الإصلاحات الدستورية الأخيرة لتساعدها في اهتدائها لهويتها بصورة هادئة وتدريجية، ولتدفع باتجاه التخلص من الإرث الأتاتوركي العلماني القسري الذي وضع الدولة والمجتمع في حلبة مصارعة. الحاجة إلى دستور قالها أردوغان أكثر من مرة: " هذا اللباس أصبح ضيقًا على هذا الجسد"؛ لم يكن الدستور التركي متطورًا مع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في تركيا خلال الثماني سنوات الأخيرة، أي منذ تولى حزب العدالة والتنمية زمام السلطة. الإصلاحات الدستورية إذًا كانت بمنزلة تتويج لثورةٍ اجتماعية واقتصادية متدرجة قامت بالفعل، وهي الآن تسعى لاكتساب الشرعية القانونية، وتثبيت أركانها دستوريًّا. لم يعد من المقبول منع تيار عريض من الأتراك المتدينين من أخذ نصيبه من السلطة التي كانت حكرًا على نخبة من العلمانين الذين اكتسبوا شرعيتهم من الجيش. ليس معنى هذا أن الإصلاحات الدستورية ذات محتوى إسلامي أو تسعى إلى أسلمة الدولة، بل هي تفسح المجال لتلون الدولة التركية بالتيارات الاجتماعية والسياسية الجديدة، وسريانها في أركان الدولة، وبالتالي فهي في المحصلة في مصلحة تلك الطبقة الوسطى الجديدة. فالإصلاحات تضم( 26 ) بندًا يتم التعاطي معها باعتبارها متدرجة وغير مثيرة للجدل، إلا أن من بينها بند يجعل من الممكن محاسبة الجيش أمام المحاكم المدنية، كما تطرح تغييرات لتشكيل المحكمة الدستورية والهيئة العليا للقضاة وممثلي الادعاء وهي هيئة تابعة للدولة مكلفة بتعيين القضاة. إلا أن أهمية هذه الإصلاحات هي أنها تتعلق بالمحاكم العليا التي تعد آخر حصون العلمانيين منذ أن قلّصت إصلاحات سبقت دفع اليها الاتحاد الأوروبي سلطة الجيش التي كانت كبيرة فيما مضي. لقد مثّلت فعاليات عملية الاستفتاء الأخيرة في تركيا أهم وأحدث المعارك بين حزب العدالة والتنمية المدعوم من الطبقة المتوسطة الصاعدة من المسلمين المتدينين من ناحية والنخبة العلمانية التي كانت تمسك تقليديًّا بالسلطة منذ أن أسس أتاتورك تركيا الحديثة من ناحية أخري . ولكن، يبدو أن حقبة النظام العلماني القسري تشارف على نهايتها بدون صخب، وبتطورات هادئة. أردوغان بعد التعديلات نجحت الإصلاحات بتصويت حوالى (58) في المائة إلى جانبها، فيما عارضها (42) في المائة ، وبهذا حُرّرَت نقطةً لبدايةٍ من أول السطر أمام وصاية النخب العلمانية؛ فقد كان هامش الفوز أكبر مما كان متوقعًا. في حين يقف أردوغان منتصرًا للمرة الربعة في مواجهة اختبارٍ جديد عند صناديق الاقتراع، كشخصية مهيمنة على السياسة التركية. كما تعطيه هذه النتيجة دفعًا قويًّا لمواصلة الإصلاح، بل لإعداد دستور جديد يطوي نهائيًّا صفحة دستور( 1982) الذي وضعه العسكر بعد انقلابهم. استطاعت حكومة أردوغان كسب قلوب الكثير من الأتراك بقيادتها لحملة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والإشراف على إصلاحات وعلى نمو اقتصادي غير مسبوق حول تركيا إلى نجمٍ متلأليء بين الأسواق الناشئة. والآن يرحب المستثمرون بهذه النتيجة باعتبارها مؤشر يدعم الثقة في الحكومة التركية بقيادة أردوغان ، كما يتوقع أن تعزز هذه التعديلات الدستورية الاقتصاد الكلي والاستقرار السياسي في البلاد. تبدو تركيا اليوم على أتم استعداد للاستمرار في دورها الإقليمي الفاعل ، إذ أن النتيجة ستقوّي صورة أردوغان الذي يستند إلى دعم الإرادة الشعبية في قراراته، وستكون الولاياتالمتحدة وإسرائيل أول الأطراف التي لن تنظر بارتياح إلى التفويض الشعبي الجديد لأردوغان والذي لا يعني بالضرورة أن الأخير سوف يستغل ذلك لتشديد مواقفه تجاه إسرائيل في المرحلة المقبلة. على أية حال، فقد قام أردوغان وحزبه بتغييرٍ سوف يفرض نفسه بحروف مميزة في صفحات كتب التاريخ؛ حيث تشاركت عملية الاستفتاء الأخيرة يوم( 12) سبتمبر، الذي كانت ذكراه حكرًا على انقلاب (1980 )في البلاد التي بدا أن مجمل ماتستقبله مع أردوغان بمثابة ثورة على مجمل ما تستدبره مع أتاتورك . فداء فوزي [email protected]