«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جميل مطر يكتب : تركيا تعود للعرب (2-3)
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 12 - 2009

نخطئ إن تصورنا أن السياسة الخارجية التركية الراهنة تمثل انقلابا حادا على ما تعودنا عليه نحن العرب من سياسات تركية خلال معظم عقود القرن الماضى.
ونخطئ خطأ أشد إن بالغنا فى تعظيم الدور الذى يقوم به رجب الطيب أردوجان فى إحداث هذا التغيير. واقع الأمر أن هذا التغيير بدأ منذ سنوات طويلة. بدأ عندما سعت تركيا فى عام 1964 لكسب الدعم العربى لموقفها من المشكلة القبرصية، ولاشك أن كثيرين من جيلنا يذكرون بوضوح أن تركيا قبل حرب 1967 رفضت تركيا الانضمام إلى مجموعة الدول البحرية التى طالبت بفتح خليج العقبة أمام الملاحة الدولية، وفى عام 1969 اشتركت تركيا فى مداولات إقامة منظمة المؤتمر الإسلامى التى جرت فى الرباط وصارت عضوا فى المنظمة فى عام 1976.
وفى عام 1973 رفضت السماح للقوات الأمريكية المتمركزة فى قواعد عسكرية على أراضيها بتزويد إسرائيل بالسلاح وسمحت للطائرات السوفييتية باستخدام المجال الجوى التركى فى طريقها إلى مصر لتجديد مخزون سلاحها أثناء الحرب. ثم إنها سمحت بفتح مكتب دبلوماسى لمنظمة التحرير الفلسطينية فى عام 1979 فى وقت كانت فى أوج صداقتها مع إسرائيل.
بمعنى آخر لم تكن العلاقات التركية العربية على الدرجة من السوء التى كنا نتصورها قبل أن يصل الإسلاميون إلى الحكم بقيادة نجم الدين أربكان.
كان أربكان فى نظر الكثيرين من العرب والمسلمين الرجل الذى فتح الباب أمام دور جديد تلعبه تركيا فى الشرق الأوسط، إلا أن هؤلاء ينسون أن لتورجوت أوزال الرئيس السابق على أربكان فضلا عظيما فى وضع أسس التوجهات الحديثة فى السياسة الخارجية لتركيا. كان أوزال مثلا من أقوى المؤيدين لمشروع نقل المياه التركية عبر أنابيب إلى سوريا والأردن وإسرائيل، وأذكر أن أجهزة إعلام عربية هاجمته فى ذلك الوقت بدعوى أنه مشروع معد خصيصا لتطبيع علاقات العرب مع إسرائيل. كان أوزال رجلا ورعا وعصريا فى آن واحد، بل لعله كان أول رئيس تركى يؤدى مناسك الحج خلال وجوده فى السلطة، وهو العمل الذى اعتبر فى ذلك الوقت تحديا صارخا لإرادة الكماليين وأيديولوجيتهم الحاكمة، فى الوقت نفسه وقف أوزال فى صدارة المؤيدين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، وكان متحمسا لإقامة منظمة البحر الأسود للتعاون الاقتصادى.
تجارب خجولة للدخول
كانت بدايات الانفتاح على العالم العربى جزءا من اتجاه أشمل لدى بعض القيادات غير الملتزمة بالأيديولوجية الكمالية للانفتاح على أوروبا الغربية وشعوب آسيا من أصول تركية والعالم العربى والإسلامى. يذكر لهذا التيار الانفتاحى الفضل فى تشجيع القادة من ذوى الميول الإسلامية للمجاهرة بأفكارهم وخططهم.
لذلك لم يكن أربكان مفاجأة مطلقة، كان مجازفا وفى رأى بعض أنصاره كان متهورا خاصة حين دعا لإقامة حلف مع دول إسلامية مثل ليبيا وإيران وماليزيا وإندونيسيا كبديل للتحالف التركى الغربى، بل إنه قام بتأسيس مجموعة الدول الثمان كصيغة إسلامية لنموذج مجموعة الدول الثمان النامية الصناعية الكبرى. لم يبد اهتماما كبيرا خلال فترة حكمه بقضية الانضمام للإتحاد الأوروبى. لذا لم يأت كمفاجأة قرار حزب العدالة والتنمية فى عام 2003 جمع ست دول إقليمية هى تركيا ومصر وإيران والأردن والمملكة السعودية وسوريا فى سلسلة مؤتمرات إقليمية أسفرت عن صدور «إعلان استانبول» لمنع الولايات المتحدة من شن حرب ضد العراق. خافت تركيا أن تؤدى الحرب إلى فوضى شاملة فى العراق تدفع تركيا ودول الجوار ثمنها غالبا. وهو ما حدث فعلا.
وتوالت بعد هذا الموقف التركى خطوات التقارب مع العالم العربى، فمن عروض للتوسط فى الصراع العربى الإسرائيلى إلى المشاركة فى اجتماعات بجامعة الدول العربية، إلى المساهمة بقدرات عسكرية فى قوات الأمم المتحدة فى لبنان.
لم يكن خافيا فى هذه الأثناء أن التيار الكمالى غير سعيد بالخطوات المتعاقبة لتوثيق علاقات تركيا بالعالم العربى. وكان واضحا أن قيادات كمالية، خاصة فى صفوف الجيش، أصابها الإحباط بسبب ما لاحظته قيادات الجيش من دعم غريب ومثير للشك من جانب الدول الأوروبية والولايات المتحدة لسياسات حزب العدالة والتنمية فى الشرق الأوسط، وإن تسربت تطمينات غربية إلى هذه القيادات تحت عنوان أن الغرب يريد تقديم تركيا أمام العالم العربى والإسلامى كنموذج للإسلام السياسى المعتدل يستحق التقليد.
ضغائن متبادلة
«.. العرب طعنونا فى الحرب العالمية الأولى حين اصطفوا إلى جانب الإنجليز ضدنا»، عبارة يرددها كثير من الأتراك من الأجيال المتقدمة فى العمر ولكن أيضا بين أبناء الأجيال الشابة بعد أن صارت نقطة راسخة فى الذاكرة التركية عن العرب.
سألت عن السبب فى رسوخ هذه المقولة والكثير غيرها ربما أسوأ منها، وجاء الرد سريعا على لسان أحد أساتذة الجامعة، قال إن الكتب المدرسية التركية تلقن الأطفال والشباب دروسا عن مواقف العرب السلبية أثناء سنوات ضعف السلطة العثمانية وبدايات المرحلة الأتاتوركية، تصورت أن يكون الرد مختلفا. توقعت من الأستاذ الجامعى أن يقول إن تركيا أدارت ظهرها تماما للمرحلة العثمانية بسبب سياساتها ومنظومة قيمها «المتخلفة»، وقررت أن تتحول إلى دولة قومية وتنعزل عن بيئتها الإقليمية الإسلامية التى عاشت فيها خمسين عاما أو أكثر.
أما الطرف الآخر، أى الطرف العربى، فيردد جانب منه عبارات بعضها يحمل كثيرا من البغض وبعضها يصر على أن العرب تعرضوا تحت حكم الخلافة العثمانية لعمليات قمع وربما إبادة لم يتعرضوا لمثيلها على أيدى الاستعمار الأوروبى. لا ينسى السوريون سنوات حكم جمال باشا أو جمال السفاح كما كان يلقب فى الكتب.
ولا ينسى المصريون روايات تحكى عن قسوة الولاة الأتراك وغطرسة موظفيهم وعساكرهم، خاصة الرواية التاريخية التى تدرس فى المدارس عن إخلاء مصر من جميع عمالها المهرة وقطع وفيرة من أثمن وأهم ما أنتجت وأبدعت من كنوز ونقلها إلى آسيا الصغرى لتكون مدن الخلافة أجمل من كل المدن الإسلامية. ولم تترك العقود الأولى من حكم النظام الأتاتوركى مجالا لتحسين صورة الأتراك لدى العرب، باستثناء ما تركته أفكار أتاتورك من تأثير واضح على شرائح واسعة من المثقفين العرب والمسلمين فى جميع أنحاء الشرق الأوسط. أذكر مثلا أنه فى كل زيارة قمت بها إلى قصر الرئاسة فى تونس كان الرئيس الحبيب بورقيبة يصر بطريقته الفريدة فى سرد القصص على الإشادة بكمال أتاتورك وكيف أنه فى الأيام الأولى لتوليه السلطة كلف النحاتين بنحت تمثال له وهو يرتدى الملابس الإفرنجية التى كان يرتديها أتاتورك ويجلس فوق حصان. وأظن أن بورقيبة لم يعف زائرا زاره فى قصره بقرطاج من الاستماع إلى حكايات عن انبهاره بأتاتورك وما خلفه هذا الانبهار من آثار على البرامج والسياسات الاجتماعية فى تونس. كان يصر أيضا على أن يحكى لزواره من المصريين حكاياته عن مصر وإعجابه بتمثال إبراهيم باشا المنصوب فى ميدان الأوبرا بالقاهرة، حيث كان يقضى الساعات الطوال جالسا على أحد المقاهى المطلة على الميدان.
أما عامة الناس وشرائح أخرى من المثقفين العرب فقد كرهوا أتاتورك خاصة أن بعض القيادات الدينية أشاعت أنه عميل للاستعمار البريطانى مكلفا بتفكيك نظام الخلافة الإسلامية، ثم توالت المواقف الرسمية التركية التى أضافت إل غضب معظم العرب، إذ كانت تركيا أول دولة «إسلامية «تعترف بإسرائيل، وقيل وقتها إن الحكام الأتراك ينفذون تعليمات حلفائهم. قيل أيضا أن أتاتورك كان ينتمى إلى أصول يهودية، وهو إدعاء لم يثبت، ولكنه من نوع الاتهامات التى ألصقت بحكام حتى من العرب فى مرحلة أو أخرى. كذلك صوتت تركيا لصالح فرنسا فى الأمم المتحدة خلال الحرب الجزائرية فى وقت كان المسلمون والعرب يعيشون فيما يشبه ثورة التأييد للثورة الجزائرية. وفى عام 1955 تآمرت تركيا مع بريطانيا لإطلاق مسيرة حلف بغداد فى مظاهرة عداء واضح للشعوب العربية التى اصطفت فى ذلك الحين مؤيدة حكومة مصر. وعندما نشبت الثورة فى العراق ضد المشروعات التركية للدفاع عن الشرق الأوسط وأسقطت حكم الهاشميين فى بغداد، قررت أمريكا غزو لبنان كرسالة لمصر لوقف تمددها القومى فسمحت تركيا للبحرية الأمريكية باستخدام موانيها خلال الغزو.
سوريا الشغل الشاغل لتركيا
منذ ذلك الوقت وسوريا الشغل الشاغل لتركيا، ليس فقط لأن حكام تركيا يدركون حجم الغضب السورى على تركيا بسبب المعاملة القاسية التى عومل بها السوريون فى ظل الحكم العثمانى ولكن أيضا بسبب احتلال تركيا لمقاطعة أنطاكيا التى اشتهرت باسم لواء الأسكندرون، وكذلك لأن سوريا خرجت من عهود الاستعمار ودخلت عهد الاستقلال ولم تغير طبائعها التى عرفت بها على مر التاريخ، وبخاصة الميل إلى الانفعال والتمرد.
كانت سوريا قبل سقوط النظام الملكى فى العراق تستعد للدخول فى تجربة جديدة تقودها مجموعات يسارية، فقامت تركيا بحشد قواتها العسكرية على الحدود السورية وهددت بالزحف على دمشق إن قام فيها نظام يسارى. ولم تكن هذه المرة الأخيرة التى حشدت فيها تركيا قواتها على حدود سوريا مهددة بالتدخل، بل تكررت وكان آخرها عندما هددت فى عام 1998 بالغزو إذا لم تسلم دمشق عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستانى. المثير فى الحالتين أنهما تسببتا فى تطورات وتغيرات جوهرية فى المنطقة العربية. ففى الحالة الأولى تسبب التهديد التركى بغزو سوريا فى قيام عناصر قومية فى الجيش السورى بالاستيلاء على الحكم فى دمشق والتوجه إلى القاهرة حاملين الدعوة لإقامة وحدة اندماجية مع مصر. وفى الحالة الثانية دخلت تركيا عهدا جديدا فى علاقتها بالأكراد وتغيرت طبيعة المفاوضات حول المياه بين البلدين واشتد ساعد القوى التركية الداعية لتعزيز العلاقات مع العرب والشرق عموما.
عزل سوريا: الفرصة الذهبية
سمعت مفكرا تركيا مهتما بالعلاقات الخارجية التركية يقول إن «رحلة تركيا الجديدة فى الشرق الأوسط وحدها وفى حد ذاتها لا تقل أهمية عن أهدافها». قول يستحق التأمل. فالحديث عن أهداف تركيا فى المنطقة العربية يطول وقد لا نصل فى وقت قريب إلى تحديد واضح لهذه الأهداف، ولكننا نستطيع وبكل الثقة الاعتراف بأن الرحلة فى حد ذاتها بدأت تؤثر فى مسارات سياسية عديدة فى المنطقة، ولا أتردد فى القول، إنها عاجلا أو آجلا ستؤثر فى سياسات دول ومنظومات قيم وتيارات دينية كثيرة فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى. سوف تؤثر إن آجلا أو عاجلا هذه «التوليفة» الذكية بين الدين والدولة، وسوف يتعرف العرب والمسلمين كل على معنى غير مألوف لديهم عن العلمانية. لقد تحدثت طويلا خلال الأيام القليلة التى قضيتها فى تركيا على امتداد زيارتين يفصل بينهما عقدان على الأقل، تحدثت بانبهار إلى أتراك مؤمنين وعلمانيين فى الوقت نفسه، أمثال هؤلاء هم الذين ينقلون تركيا إلى مصاف الدول الناهضة فى السياسة والعلوم والاقتصاد.
سألت: هل كانت تركيا فى انتظار حدث أو فرصة لتكثف جهودها للعودة إلى الشرق الأوسط؟ وهى إن فعلت فلن تكون استثناء بين الدول. تعلمنا على أيدى خبراء العلاقات الدولية قبل أن نتولى تعليمها لأجيال أخرى، أن ما يميز سياسيا عن آخر هو القدرة على تلقف الفرصة المناسبة لإطلاق مشروع أو إعلان مبادرة أو اتخاذ قرار معتبر. وفى اعتقادى أن حكومة أنقرة واتتها هذه الفرصة «التاريخية» فى عام 2004 ولم تدعها تفلت منها. كانت العزلة التى قررتها الولايات المتحدة على سوريا على وشك أن تكتمل حلقاتها وبخاصة بعد أن قررت دول عربية معينة الاشتراك إعلاميا وسياسيا فى تنفيذ الحصار الدولى والإقليمى علو سوريا.. ومن بين ركام الحصار وبغطاء مشاركتها فيه تسللت تركيا إلى النظام السورى عارضة عليه إقامة اتفاق للتجارة الحرة بين البلدين. ولم ينتبه الكثيرون فى المنطقة إلى هذه الخطوة من جانب حكومة طيب أردوجان، ولم تكن أفكار أحمد داود أوغلو المستشار السياسى فى ذلك الحين ووزير الخارجية الحالى ذائعة الصيت كما هى الآن، خاصة ما كتبه وجعله مدخلا للسياسة الخارجية المعاصرة لتركيا ولخصه فى كلمات معدودة نصها «سوريا بوابة تركيا على العالم العربى، وعزلها يعنى عزل تركيا عن محيطها».
فضل مصر
لن أكون مبالغا أو متجنيا حين أقرر أن مصر كان لها الفضل، أو بعضه على الأقل، فى عودة تركيا إلى المنطقة بقرارها المساهمة فى سياسة عزل سوريا عقابا لها أو تأنيبا. لم نحسن التقدير وقتها. لم نضع تركيا فى حساباتنا الإقليمية كما كان يجب أن توضع. استمرت سياستنا الخارجية تتعامل مع تركيا باعتبارها دولة تجرى فى فلك الغرب وتخضع لإرادة إسرائيل ولن تسلك مسالك تؤذى علاقاتها بأمريكا والإتحاد الأوروبى. ولعلنا تصورنا خطأ أن حصار سوريا وعزلها لا يهم أحدا ولا يضر بأحد غير سوريا. لم نقرأ كراساتنا بالعناية الواجبة ولم نحفظ دروسنا ولم نستمع لأهل الخبرة والمعرفة، ولو فعلنا لأدركنا أن تركيا لن تسمح بعزل سوريا لأن أمنها مرتبط بأمن سوريا واستقرارها. فشلنا وفشلت معنا المملكة العربية السعودية حين أسأنا تقدير أهمية الموقع الجيوبوليتيكى لسوريا، وأغفلنا القواعد الأولية للنظام الإقليمى العربى، وأولها ألا تترك سوريا تتصرف منفردة، مجبرة كانت أو باختيارها.
تسارعت خطوات الزحف التركى بعد 2004 عندما تأكد العثمانيون الجدد فى كل من تركيا والعالم العربى أن باب سوريا انفتح. ولم يكن رجب طيب أردوجان متواضعا حين تحدث إلى المسئولين السوريين أمام الصحفيين قائلا: «كل ما ينقصكم هو إرادة القوة، وحينها فقط ستصحبون قادرين على استخراج الحليب من ذكر الماعز، ونحن فى تركيا عقدنا العزم على وضع أيدينا فى أيديكم لتحقيق هذا الهدف». وبعد أيام من إذاعة هذا الحديث ارتفع الستار عن وساطة تركية بين سوريا وإسرائيل، وأعلن فتح الحدود بين تركيا وسوريا.
****
دار نقاش أمامى طرفاه داعيتان قوميان أحدهما تركى والثانى عربى. قال القومى التركى نحن فى تركيا نراكم كقوميين عرب متسامحين ومتساهلين مع القوميات والأقليات غير العربية فى العالم العربى ولكن متشددين ومتصلبين مع القوميات غير العربية فى مناطق الجوار. وقال القومى العربى نحن نراكم كقوميين أتراك تحققون إنجازا رائعا فى سعيكم للتوفيق بين ضرورات النهضة بالدين وأركان المبادئ القومية. ترى هل تسعى القيادة السياسية فى تركيا من خلال هذا الإنجاز لتولى مهام قيادة الأمة العربية؟ هنا تدخلت الأستاذة مليحة الخبيرة التركية فى الشئون العربية لتقول للطرفين: رجاء أتركوا جانبا موضوع الريادة والقيادة، هما الصخرة التى قد تتحطم عليها طموحات الساسة من الأتراك والعرب الذين يعملون بإخلاص لبناء علاقة تركية عربية قوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.