فى مناشطنا السلوكية بعضنا مع بعض ، ومن خلال السياق الاجتماعى ، غالبا ما نسلك وننشط بناء على " مفاهيم " ذات دلالات ومضامين معينة هى التى توحى لنا بأن نفعل كذا وكذا ، من غير ضرورة الوعى بهذه الدلالات وتلك المفاهيم ،حيث يسلك عموم الناس وعامتهم بتلقائية وبغير كثير من التأمل فى دوافع ما يفعلون ويفكرون ،وأبرز ما يمكن التمثيل له هنا هو " الوقت " كمفهوم ،وكقيمة ، فنحن إذ " نتواعد " على مواعيد معينة ، فإن مفهوم كل منا عن الوقت وقيمته هو الذى – غالبا – يدفعنا إلى الحرص على الالتزام بالموعد المتفق عليه أو العكس ، مع النظر بعين الاعتبار إلى أن الإنسان أثناء ذلك ، لا يُمعن التفكير فى مثل هذه الدلا لات والمضامين ، تماما مثلما يحدث لمن عرف قيادة السيارة ، فهو لا يمعن التفكير فى كل حركة مطلوبة ودلالاتها ،والنتائج المحتملة لهذا التصرف أو ذاك. فإذا ما رأينا سلوكا غير مستقيم ،وسعينا إلى تصويب المسار ، كان من أهم السبل إلى ذلك ، تحليل السلوك غير المستقيم ، بحثا عن المفهوم الذى صدر عنه ،وبعد ذلك ، نسعى إلى تصحيح المفهوم ، تمهيدا إلى تصويب المسار . ومن هنا فإن من الكوارث التى يمكن أن يصاب بها مجتمع ، أن تختلط المفاهيم ،وتلفها استار غموض وخلط ... خذ ، على سبيل المثال مفهوما مثل مفهوم " الإرهاب "، فأفعال المقاومة والدفاع عن الأرض المحتلة هى أعمال أخلاقية من الطراز الأول بالنسبة لمن اغتصبت أرضهم ووقعوا تحت نير البغى والظلم والاحتلال ، لكن البغاة والظالمين ، يسعون إلى تشويه وجه المقاومة ،وتبرير فعل الاحتلال والاغتصاب والبغى ، فيصورن المقاومة بأنها " إرهاب " ، الذى هو ترويع للآمنين ،ونشر لرعب والعنف ،ولذلك نجد قوى البغى العالمى تهرب دائما من مواجهة ضرورة تعريف الإرهاب وتحديد معناه ، لأن مثل هذا التوضيح ، هو الذى يفرق بين الفعل النبيل والفعل الخسيس ، بين العدل وبين البغى . وكمظهر من مظاهر التراجع الاجتماعى والثقافى فى مصر فى السنوات الأخيرة ، شئ مثل هذا ، نجد فيه خلطا فى المفاهيم وبلبلة تؤدى إلى صور من الانحراف ، تتدرج من أبسط الأشكال ، إلى أخطرها وأفدحها ، كما نرى من تسمية " الرشوة " " بالإكرامية " ،والتى تتدرج من جنيهات تعد على اصابع اليد إلى ملايين الجنيهات ،وفقا لسعر الخدمة المطلوبة ونتائجها. وإذا كان يمكن " فهم " ما يحدث فى هذا الشأن فى المجال العام ، رغم عدم رضانا عنه ، لكن ما يصعب فهمه حقا أن ترعى الدولة صورا من ذلك الانحراف ، بل وتدفع نفقاته ومكافآته ، من المال العام الذى تتحصل عليه من الضرائب التى تدفعها أنت وأنا وكل المواطنين كى تقدم لنا بها الدولة ما يعيننا على الحياة ويدفع بمجتمعنا إلى أمام ، لكن هذا الذى يحدث ، تحت مظلة ما نكتب عنه هو خلل خطير وانحراف من أولى الأمر عن المسئولة التى أوكلت بهم . ومثالنا اليوم معنى " الجرأة " الذى نجد جهاز الدولة الرسمى يروجه بين الناس ،والذى ينحرف عن معناه الحقيقى . ففى المعجم الكبير : جرؤ فلان ، أى شجُع وأقدم على الشئ من غير تردد ولا توقف ، فهو جرئ . لكن اللغة ليست مجرد حروف وكلمات ، فهناك سياقات اجتماعية وأخلاقية ،وهنا ، لو رأينا مسلما قام فى نهار رمضان ،وأمام جمع من المسلمين بتناول طعام ، من غير عذر من الأعذار المعروفة ، فالتطبيق الحرفى لمعنى الجرأة " يوهمنا بأن هذا الشخص جرئ . والذى يهجم على أنثى فى الطريق العام ليرتكب معها فعلا فاحشا ، هل نعتبره هو الآخر أقدم على الشئ من غير تردد ولا توقف ، فيكون جريئا ؟ كلا ، فالأمر له وجهه الآخر الأخلاقى ، ذلك أن الذى يضبط شهواته وغرائزه ، فى الوقت الذى تتيح له الظروف ممارسة ما يشتهى بغير حق ، هو الجرئ حقا ،لأن الجرأة شجاعة تقوم على قهر الهوى ، أما الذى لا يستطيع كبح جماح شهواته ، فيقدم على فعل الرذيلة ، فلا يمكن أن يعد جريئا وشجاعا ،بل نعتبره لا أخلاقيا، لأن الفعل هنا " اجتراء " ، بالمعنى الاصطلاحى ، أى اقتحام الحدود والحواجز بغير التزام بمنظومة القواعد والمبادئ التى يتطلبها الدين والعرف الاجتماعى والقانون الأخلاقى . منذ أن كتب المفكر الأوربى الشهير " جان جاك روسو " كتابه المعروف " الاعترافات " ، لمسنا أن الإنسان الغربى ، وخاصة من الفلاسفة والمفكرين والزعماء السياسيين ، ليست لديه مشكلة فى أن يكشف عن رذائله اللا أخلاقية التى مارسها فى حياته ، بينما لا نجد مثل هذا تقريبا فى مذكرات المفكرين والزعماء فى عالمنا العربى .. البعض يفسر الفعل الغربى بأنه " شجاعة " ، والفعل العربى بأنه " جبن " ، فهل هذا صحيح ؟ إننا نعى جيدا إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى " الحياء " بأنه شعبة من شعب الإيمان ،ولذك كان من التوجيهات الأخلاقية " إذا بليتم فاستتروا " ،ومن هنا كان من أركان الثقافة العربية الإسلامية " حرمة الحياة الخاصة " ،وبالتالى فإن من يهتك أستار الحياة الخاصة لا نعتبره شجاعا وجريئا ، بل " وقحا " !! فى الحياة الغربية ، يمكن أن ترى فى الشارع ، أو فى حديقة عامة ،فتى وفتاة يتعانقان ويقبل أحدهما الآخر فى حميمية وحرارة ، فلا يتعرض لهما أحد ، لكن لو أن اثنين فعلا هذا ها فى بلادنا ،وقعا تحت طائلة القانون بتهمة خدش الحياء العام ! من هنا فعندما نرى الدولة تنفق مئات الألوف ،وربما الملايين ، من الجنيهات على برامج تبلبل المفاهيم ، فتصور " الاجتراء " على القيم والأخلاقيات والحياة الخاصة " جرأة " ، إذ أن هذا الوصف يعنى فى التو واللحظة دعوة مباشرة إلى الإقدام على مثل هذا ، ما دام موصوفا بالجرأة والشجاعة ، لا بالإسفاف والوقاحة . قد يقول البعض ، أن الدولة فى الحقيقة لا تنفق شيئا ذا بال ، فحصيلة الإعلانات ، هى التى تسد هذا ،ونسارع إلى القول بأن هذا الذى تدفعه الإعلانات ، يُحَمّل على تكلفة السلعة وبالتالى سعرها ، الذى أتحمله أنا وتتحمله أنت ،أى أنه سفه فى الإنفاق ، عندما تبدد عناصر من الثروة القومية على أحاديث لا تجد من مسائل الحياة إلا الجنس والكبت الجنسى وغرف النوم والأجسام العارية . يقولون أن " الجنس " هو محور أساسى فى الحياة ،وهذا صحيح ، لكن ، هل كل ما هو أساسى لابد أن يكون موضع حديث وإعلان وتصوير ومناقشات ؟ إن هناك مسائل أمنية خطيرة ، متخمة بالأسرار المهمة للغاية والتى تتصل بحياة ملايين الناس ،والناس تتوق شوقا إلى معرفتها ، فهل يكون هذا مبررا لتلوكها الألسن على شاشات التلفاز، أم أن أولى الأمر يسارعون بالتحذير من أن هذا مما يتصل بالأمن القومى ، فلا ينبغى أن يقربه أحد ، بل ويمكن أن يتم القبض على من يذيع مثل هذه الأسرار الأمنية ويقدم للمحاكمة ويتم سجنه؟ أليس الحديث عن الحياة الخاصة ، وبالذات جوانبها الجنسية ، تعد هى الأخرى من أركان " الأمن " الشخصى ، بل والأمن المجتمعى ؟ بل إننا نتساءل : إذا كانت المسألة مسألة جرأة وشجاعة حقيقية ، أليست المسألة السياسية مما يهم كل الناس ؟ فلم لا تمارس الجرأة أمام بعض المسكوت عنه ،وهو غير قليل ، على الرغم مما يقال عن اتساع مساحة الحرية والتعبير فى أجهزة الإعلام ، أم أن الجنس فقط هو منطقة الجرأة والشجاعة ؟ إن هذا شبيه بما يحدث فى مجال الفكر عندما يظهر عمل أدبى يقوم على الاجتراء على الدين والذات الهية مثلا فيصفه البعض بالجرأة ، مع أنه لا يستطيع أن يمارس هذه الجرأة – مثلا – مع رئيس الدولة ! هذه صورة من صور البلبة فى المفاهيم ، التى نجعلها من همومنا الأساسية، لأن كشف الزيف عما يسمى بالجرأة ، ليوضع فى موقعه الحقيقى المناقض لذلك ، ربما يكون سبيلا من سبل تصحيح المسار فى السلوك الاجتماعى والشخصى. said aly ([email protected])