45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 15 نوفمبر 2025    84 دولار مكاسب الأوقية ببورصة الذهب العالمية خلال أسبوع    الجيش السوري يعلن نتائج التحقيقات الأولية بانفجار دمشق وإسرائيل تدخل على الخط    اتحاد الكرة يسحب اليوم قرعة دور ال32 لبطولة كأس مصر    ضبط المتهم بصفع مهندس بالمعاش والتسبب في مصرعه بالهرم    مصطفى كامل يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    زمالة العمل أو الدراسة قد تتحول لصداقة ضارة.. استشارية توضح    نجوم الفن يضيئون ليلة زفاف ابنة عمرو عرفة... وأحمد سعد يشعل الأجواء بالغناء    محمد موسى يكشف سجل أزمات محمد رمضان: «ضجيج بلا مضمون»    الاتجار في أدوية التأمين الصحي «جريمة»    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    اليابان تدرس حزمة تحفيز اقتصادية بقيمة 17 تريليون ين بقيادة ساناي تاكايتشي    تفاصيل عن مشروع قرار أممي قدمته روسيا للسلام في غزة بديلا عن آخر أمريكى    فلسطين.. جيش الاحتلال يعتقل 3 فلسطينيين من مخيم عسكر القديم    ترامب: سنجري اختبارات على أسلحة نووية مثل دول أخرى    العنف المدرسى    ترامب: أشعر بالحزن لرؤية ما حدث في أوروبا بسبب الهجرة    انفراد ل«آخرساعة» من قلب وادي السيليكون بأمريكا.. قناع ذكي يتحكم في أحلامك!    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    تفاصيل مشروعات السكنية والخدمية بحدائق أكتوبر    قتلى ومصابون باقتحام حافلة لمحطة ركاب في إستكهولم بالسويد (فيديو)    عضو جمهوري: الإغلاق الحكومي يُعد الأطول في تاريخ الولايات المتحدة    أموال المصريين غنيمة للعسكر .. غرق مطروح بالأمطار الموسمية يفضح إهدار 2.4 مليار جنيه في كورنيش 2 كم!    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    طقس غير مستقر وشبورة كثيفة.. الأرصاد تكشف توقعات السبت 15 نوفمبر 2025    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    ترامب يعلن نيته اتخاذ إجراء قضائي ضد "بي بي سي" ويعلق على الرسوم الجمركية    نانسي عجرم: شائعات الطلاق لا تتوقف منذ زواجي.. ولا أقبل أن أعيش غير سعيدة    هولندا تضع قدما في المونديال بالتعادل مع بولندا    مستشار الرئيس الفلسطيني: الطريق نحو السلام الحقيقي يمر عبر إقامة الدولة الفلسطينية    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    إلى موقعة الحسم.. ألمانيا تهزم لوكسمبورج قبل مواجهة سلوفاكيا على بطاقة التأهل    إبراهيم صلاح ل في الجول: أفضل اللعب أمام الأهلي عن الزمالك.. ونريد الوصول بعيدا في كأس مصر    سيارة طائشة تدهس 3 طلاب أعلى طريق المقطم    عصام صفي الدين: السلوكيات السلبية بالمتاحف نتاج عقود من غياب التربية المتحفية    أحمد كرارة لليوم السابع: أجريت عملية تغيير شرايين في الفخذ والبطن وأعيش فترة نقاهة    فرنسا: 5 منصات تجارية تبيع منتجات غير مشروعة    شتيجن يطرق باب الرحيل.. ضغوط ألمانية تدفع حارس برشلونة نحو الرحيل في يناير    صدمة في ريال مدريد.. فلورنتينو بيريز يتجه للتنحي    اليوم.. أولى جلسات استئناف المتهمين في حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    اليوم.. انقطاع الكهرباء عن 31 قرية وتوابعها بكفر الشيخ لصيانة 19 مغذيا    رئيس قناة السويس: تحسن ملحوظ في حركة الملاحة بالقناة    إخماد حريق في مخبز وسوبر ماركت بالسويس    بيان من مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للرد على مزاعم حالات الوفيات الجماعية    رئيس الطب الوقائى: نوفر جميع التطعيمات حتى للاجئين فى منافذ الدخول لمصر    آخر تطورات الحالة الصحية لطبيب قنا المصاب بطلق ناري طائش    الباز: العزوف تحت شعار "القايمة واحدة" عوار يتحمله الجميع    تربية عين شمس تحتفي بالطلاب الوافدين    «الصحة» تنظم جلسة حول تمكين الشباب في صحة المجتمع    انطلاق برنامج دولة التلاوة عبر الفضائيات بالتعاون بين الأوقاف والمتحدة في تمام التاسعة    تكافؤ الفرص بالشرقية تنفذ 9 ندوات توعوية لمناهضة العنف ضد المرأة    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: صعود المستقلين وتراجع المرأة في المرحلة الأولى لانتخابات النواب    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تناقش النظام الغذائي ونمط الحياة الصحي    صندوق "قادرون باختلاف" يشارك في مؤتمر السياحة الميسرة للأشخاص ذوي الإعاقة    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأغنياء
نشر في المصريون يوم 14 - 08 - 2010

مقال للأديب الكبير العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله ، كتبه منذ 70 عاما ( مجلة الرسالة عدد 357 س 8 ، 1940 ) في ليلة من الليالي حين كان يطالع كتاب المقريزي (( إِغاثة الأمة ، بكشف الغُمَّة )) الذي تحدث فيه عن تاريخ المجاعة في مصر فقرأ بعض الكلمات عن الغنى المطغي الذي يفتك بصاحبه ، فاستثارت قلمه ، فكان هذا المقال :
* * *
الأغنياء
بقلم : محمود محمد شاكر
كانت ليلة السبت السالفة من الأسبوع الماضي ، فوقع في دنيايّ أمرٌ مُفْزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِى دهرًا من عمره ثم أبصر . فأخذتني الحيرة أخذًا شديدًا ، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماءُ في مرجَله على معركةٍ من النار تشتعلُ من تحته وتتسعر ، وتقاذفَتني الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ ، وتنزَّى قلبي بين ضلوعي كما تتنزَّى الكرَةُ مقْذوفة على علُ ، وهاجَ هَيجي واضطربَ أمرِي وتغوَّلَتْني الأفكارُ الخائفة الحزينة المجرَّحة التي تَدْمَى أبدًا ، فلا تحسمُ الدَّم ، وانقلبتُ بِهَمَّي أدورُ في نفسي دَوْرة المجنون في دنيا عقله المريض المشعَّث . وهكذا قَضَّيتُ ليلَ أيامي ، وليس لمثل هذه الأيامِ نهارٌ .
ودعوتُ ربي جاهدًا ، وكنت من قبل أدعوهُ ، إنه هو البرُّ الرحيم ... ، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعَيْنَىَّ غِلاَلةُ من سرابٍ تخفِقُ عليها وتميدُ وتتريَّعُ ، وإذا الأرضُ غيرُ الأرضِ والناس غيرُ الناسِ ، وإذا كل شيء يجيءُ ويذهبُ ، ويبينُ ويَخفى ... ، وفقدتْ الأشياءُ معانيها في نفسي ، فما أرى إلا بؤسًا وخَصاصة وجوعًا وعُرْيًا ، وإذا كلُّ شيء بائنٌ فقيرٌ جائعٌ عارِ لا يستره شيءٌ .. اللهم إني فوضتُ أمري إليك وألجأتُ ظَهري إليك ... ومضيتُ أنسابُ في أيامي البائِسَة ، حتى إذا كان الليلٌ في أَوَّلِهِ مُنذ أمس ، أويتُ إلى بيت كتب آخذٌ كتابًا لا ألبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوةٌ أو حقدٌ قديمٌ . فضِقتُ ثم ضقتُ وخَنقني خانقُ الضَّجر واليأسِ ، وغاظني ما غلبني على عقلي وإرادتي ، فأهويتُ بيدي إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه ، وإذا هو : (( إِغاثة الأمة ، بكشف الغُمَّة ، للمقريزي )) .
وفتحتهُ وانطلقتُ أقرأ ، فما أجوز منه حرفًا أولَ إلا وجدتُ الألفاظَ تتهاوى في نفسي وفي عقلي ، وكأنها تُقذفُ فيهما من حالقٍ ، حتى لَوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةً ودويًّا وهدًّا شديدًا شديدًا ، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة .
وإذا بحر يموجُ لعينيّ أسمعُ هديرَه وزئيره وزمجرة أَمواجِه في الريح العاتية ، وإذا هو أحمرُ كالدَّم يَفُورُ ويتوثَّبُ ، وإذا صرخةٌ تخفت زمجرة الأمواج ، وإذا هو هاتف يهتف بي : (( قم إلى صلاتك ، فقد أظلك الفجر !! )) .
فانتبهت فزعًا وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة والعشرين من هذا الكتاب ، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر : (( ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء ، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع ، فكان الأب يأكل ولده مشويًّا ومطبوخًا ، والمرأة تأكل ولدها ... فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه . ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ ، فإذا هي لحم طفل . وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت ))
[ وكتاب " إغاثة الأمة بكشف الغمة " هو تاريخ المجاعات التي كانت بمصر ، وقد طبع بلجنة التأليف والترجمة والنشر منذ أسابيع وهذا الذي نقلناه من تاريخ المجاعة التي كانت بمصر في الدولة الأيوبية سنة 596ه فقيل فيها : سنة سبع افترست أسباب الحياة ] .
أين يعيش أحدُنا وهو يقرأ ؟
هذه تسع ساعات يخيَّل إلىَّ أن قضيت ثماني ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلِّبها لعيني فتنقلَّب معانيها في نفسي ، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي ، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكارًا تتَّسع وتتراحب وتتداعي وتتوالد ويَنْسَخ بعضها بعضًا .
ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر ، وما تحدثت به النفس من حديث أَكَلَ ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر ، لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد ، ولكن ...
لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر ؟
ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية ، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أَكْل ولَدِها الذي وَلدَتْه ؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة دائمًا هما مِثالُ الرحمة والحب والعطف والحنان ؟
أليس الناس جميعًا – غنيُّهم وفقيرُهم – سواء في هذه الحياة ؟ بَلَى ، ولكن ...
ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض ، وفي الحياة الدنيا ، ألا وإن المالَ عِصامُ هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يُقضى من أعاجيبها عجب ، ألاَ وإنه لّلنِّظَام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها ، ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة ، إذ يكون هو كل شيء ، ثم هو ليس بشيء على الحقيقة ، وإذ يكون في وَهْم الفقير سِرّ السعادة ، ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة .
ألا إنه العجب والفتنة ، إذ يكون سر الحياة الإنسانية المدنية على الأرض ، ومع ذلك فهو إذا مَلأَ الغَنىّ أفرغه من إنسانيته ، وإذا فَرَغَ الفقير منه امتلأَ إنسانية ورحمة وحنانًا ، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب ويرمى بعضها في بعض حتى يصبح كل شيء فسادًا لا صلاح له .
(( أكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت ! ))
و (( أكثر ما يفعل ذلك النساء ! )) .
إنه ليس عجيبًا ولكنه مؤلم ، إنه ليس بعيدًا ولكنه مفزع ، إنه هو الحقيقة الدائرة مع معاني الثراء والغنى والترف والرفاهية ، ولكنها الحقيقة الضاربة المتوحشة التي انطلقت من قيودها حين أزَمتها الحاجة والقحط والجوع ونداء المعدة التي تتلوّى أمعاؤها كما تتلوى الحية الجائعة على شهواتها المتجسدة في فريستها .
ليس هذا هو كل شيء ، وليس القحط وحده هو اذي يُضَرِّى عبيد المال فيأكلون بنيهم وبناتهم أكل الوحش الطاغي بطغيان حيوانيته التي تريد البقاء لنفسها ، ثم لا تعرف غير نفسها ، ولا تعبد إلا نفسها .
إن كل أزمة تطلق في أعصاب الأغنياء – إلا من رحم ربك – وحشًا آكلا طاغيًا مستأثرًا لا يرى إلا نفسه ولا يريد البقاء إلا لنفسه .
فإذا وقع القحط بين صديقين أحدهما غني كان صديقه طعامًا تفترسه الصداقة الغنية ! وإذا وقع القحط بين حبيبين أحدهما ثرىِّ مترف تثاءب عنه يريد النوم لأنه شبع من حبه حتى تملأ ! وإذا وقع القحط بين أخوين أحدهما غني ، كان حق الرحم عليه أن يشرب ما بقى من دم أخيه يستولغ فيه حتى يَرْوَى ! .
إن الترف والنعمة والكفاية ، وأحلام الغنى وكنوز الثراء ، إن هي إلا الماحقات الآكلات التي تمحق العواطف الإنسانية النبيلة حين لا ملجأ إلا إلى الخشونة والشدة والصبر وحقيقة الفقر .
إن الفقراء هم أكثر الناس رغبة في النسل على ضيق رزقهم ، والأغنياء أقل الناس إقبالاً عليه على ما يجدون من السعة . الفقراء أشد حزنًا على من فقدوا من أبنائهم وأحبابهم ، ولكن أولئك لا يحزنون إلا ريث يُشْعرون الناس أنهم حَزِنوا ، ولئلا يقول الناس إنهم لم يحزنوا على أحبابهم ...
الأغنياء ، الأغنياء ... نعم هم زينة الحياة الدنيا ، ولكن مع الزينة الخداع ، ومع الخداع الضعف ، ومن الضعف القسوة حين تجد ما يتلين لها أو يتساهل أو يستكين ... أو يثق .
فمن صَادق غنيًا فليحذر ، ومن آخَى ثريًا فليتحصن ، ومن عامله فليرهب ، فإذا بلغ المرأة الغنية فأحبها فخيلت له أنها أحبته فوثق بها فقد هلك ، وإنما هو مَلهاة من ملاهي الترف ، إذا فقدت لذة اللهو به نبذته لما به .
محمود محمد شاكر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.