الذي يتأمل خريطة الفضائيات العامة في مصر ، الحكومية والخاصة ، لا يحتاج وقتا طويلا لكي يدرك أننا نعيش عصر الفهلوة والسيطرة الأمنية المطلقة و"الناعمة" على الإعلام ، أضف إلى ذلك نزعة "التكويش" التي يمارسها جيل جديد شديد الشراهة للمال والوجاهة والنفوذ ، وظاهرة التكويش بشكل عام أصبحت من معالم هذا العهد السعيد ، ويستوي فيها الحكومة ومن "يمثل" دور المعارضة ، تأتي لك أيام تجد شخصا بعينه حاضرا على الشاشة في هذه القناة الرسمية أو تلك الخاصة وفي ذلك البرنامج أو ذاك الحوار ، حتى قيل أنك تخشى إن فتحت صنبور المياه في بيتك يخرج لك فلان ، من فرط ما يفرض نفسه أو يفرضه آخرون على الخلق ، وهناك أشخاص لا يحظون بأي حضور إعلامي أو قبول على الشاشة ومع ذلك يتم فرضهم والتوسعة لهم وتمكينهم من برامج سياسية أو إخبارية أو حوارية أو ما يعرف "بالتوك شو" ، وأحيانا تستغرب من أين يأتي بعض هؤلاء بالوقت الذي يقومون فيه بكل تلك الأعمال الموكلة إليهم ، فعلى سبيل المثال تجد الزميل إبراهيم عيسى المحرر السابق في مجلة روزا اليوسف ، هو رئيس تحرير صحيفة يومية ، بكل ما تعنيه رئاسة تحرير صحيفة يومية من إجهاد وتركيز ، ثم إنه أيضا رئيس تحرير صحيفة أسبوعية ، ثم هو المشرف العام على قنوات الملياردير القبطي نجيب ساويرس ثم هو نفسه الذي يقدم برنامجا يوميا طويلا على قناة ساويرس ثم هو نفسه الذي يقدم برنامجا يوميا آخر "دينيا"!! هذا الشهر على قناة دريم ثم هو نفسه الذي يقدم هذا الشهر أيضا برنامجا فكاهيا يوميا آخر على قناة كوميدية من القنوات الجديدة ، هذا كله إضافة إلى متابعته لشؤون حياته الخاصة كالقصر المنيف الذي يشيده الآن في حي الشيخ زايد المميز في السادس من أكتوبر ويهتم بتفاصيله اهتماما خاصا كما قال أصدقاؤه ، وهذا شيء مدهش جدا ، وكأن مصر عقمت أن تجد من يقدم كل هذه البرامج الفكاهية والدينية والسياسية والتاريخية وكل شيء كان إلا إبراهيم عيسى ، ثم تجده يحدثك في صحيفته عن "التكويش" على السلطة ، هل هي شهوة البحث عن "جني الأرباح" بلغة البورصة قبل أن تنتهي مرحلة الفوضى والعشوائية التي تعيشها مصر في كل جوانبها بما فيها الإعلام ؟!، والذي يحيرك أن الزميل إبراهيم عيسى يقدم نفسه بوصفه معارضا مستقلا ومناضلا ضد السلطة وتغولها ، رغم أن السلطة هي التي وسعت له ومكنته من كل هذه "السبوبة" التي تترجم إلى ملايين الجنيهات ، وكان أكثر من مالك للقنوات الخاصة التي يعمل فيها إبراهيم عيسى قد أكدوا "بالفم الملآن" ، أنهم لا يعملون إلا وفق التوجيهات والتعليمات ، وأنه لا يوجد برنامج أو مقدم برنامج سياسي يتم اختياره إلا بعد أخذ الموافقة الأمنية الصريحة ، وزاد أحمد بهجت قوله : إنهم إذا قالوا لي الغي برنامج سألغيه بل لو قالوا لي اقفل القناة كلها سأقفلها ، فلماذا يا ترى تبارك "الأجهزة الأمنية" عمل الزميل إبراهيم عيسى في كل تلك القنوات وبكل هذا السخاء ، فليس سبوبة واحدة بل "تكويش" حقيقي على مساحة واسعة من الإعلام المصري ، هذا شيء محير ، لأن المفترض أن إبراهيم رجل مناضل ، وينتقد الرئيس ونجله ، ولكنه للأمانة لا ينتقد "الرجل الكبير" صاحب عباءة السيادة والريادة الشهيرة ، وعباءته هي الراعي الأول في مصر لعدد كبير من "زبد" هذا الزمن الإعلامي الرديء ، والدجالون الذين احترفوا النصب على المواطن الغلبان ، واستهلاك طاقات الغضب داخله وتنفيسها في مسارب مشتتة للغاية ، وتشنيف عينه بالعبارات الساخطة والنقد اللاذع للسلطة كقنابل دخان لا أكثر ، والمقصود جناح بعينه في السلطة ، قد لا يمضي زمن طويل قبل أن يفيق الناس في بلادي على أنهم كانوا يعيشون في زمن "المماليك" بالفعل ، وكل مملوك وله حاشية ، ومن أهم حاشيات المملوك بعض الإعلاميين ، غير أن المماليك اليوم لا يخوضون مواجهاتهم مباشرة وفي صراحة ووضوح ، لأن هذا مدمر للجميع وتكلفته باهظة على الجميع أيضا وعواقبه وخيمة ، وإنما يستخدمون "حاشيتهم" في تصفية الحسابات ، والضرب تحت الحزام ، وكل مملوك يوسع لحاشيته ويمكن لها ويمهد لها أسباب الثراء والبغددة ، ويجلب لها حنان "أجهزة الدولة" بما لا يعوق طموحها ، وهو طموح شخصي بحت ، وكم رأينا معشر الصحفيين بأعيننا زملاء أتوا من أعماق الوادي شماله أو جنوبه ، فقراء بائسين مساكين تجوز لحالهم الزكوات ، فإذا بهم خلال سنوات قليلة ، مليونيرات وباشوات ، تلمع وجوههم المنعمة والمترفة بنفس اللمعة التي تراها في وجه "المملوك" الفاسد الذي صنعهم ، وفي الحديث الشريف : كل الناس يغدو فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها . [email protected]