أمضيت سنوات طويلة من عمري عاكفا على دراسة النظام السياسي الجزائري (تقريبا منذ العام 1994 حتى العام 2006) حيث أنجزت أطروحتي الماجستير وكانت عن عوامل فشل التحول الديمقراطي، والدكتوراه وكانت عن النخبة الحاكمة في الجزائر وأصولها الاجتماعية والاقتصادية. وكان أهم ما لاحظته أن تجربة الجزائر الديمقراطية قد وصلت إلى طريق مسدود او اصطدمت بالحائط كما يقولون لسيادة الثقافة الاستئصالية عند الفاعلين الأساسيين في العملية السياسية الجزائرية، عند النظام الحاكم وعند المعارضة. وذلك لأن ثقافة الاستئصال وعقلية الاستئصال هي: ثقافة أحادية (منغلقة- مكتفية بذاتها- نافية للأخر) لا تقبل بالأخر ولا تحترم وجوده ولا تجد حلا للتعامل السياسي معه إلا باستبعاده سواء عن طريق التصفية الجسدية أو التصفية المعنوية بتشويه سمعته أو نفيه خارج البلدان أو إدخاله في قلب النظام وشرائه بمنصب رسمي أو بالمال السياسي المباشر، والنماذج على كل نوع أكثر من أن تعد. ولقد أنتجت ثقافة الاستئصال وعقلية الاستئصال ما أطلقت عليه "الثقافة السياسية الصفرية" وأعني بها أن المعادلة التي تحكم الصراعات الاجتماعية داخل الدولة والمجتمع تتميز بأن الفائز يأخذ كل شيء والخاسر يترك كل شيء ولا إمكانية للعودة لمحاولة التجريب مرة أخرى. وعاشت الجزائر: دولة ومجتمعا، شعبا ونظاما عشرين سنة في بحر من الدماء لا يتوقف حتى يستمر، واستمر النزف والنزيف من دماء الجزائريين حتى أسموها العشرينية السوداء لكثرة ما جرى فيها من مآسي وأهوال. حتى جاء الرئيس بوتفليقية ورفع شعار عفا الله عما سلف لتيقنه أنه لو حاول محاسبة من أوصل الجزائر لهذا السواد (طريق مسدود ومملوء بالدماء والأشلاء والضحايا والمغتصبات) فلن تنتهي عملية القتل والثأر المستمرة، ولما أمكنه وقف هذا النزيف المستمر، عندما سيطر جناح في المؤسسة العسكرية تمثل ثقافة الاستئصال مشروعه الأساسي. واليوم بعد التحول العظيم الذي شهدته الدولة المصرية والخروج الكبير لقطاعات واسعة من الشعب رافضة للنظام الحاكم سواء في 25 يناير أو في 30 يونيه لا يمكن العودة لعصور ما قبل هذا الخروج. سقط نظام مبارك لمّا سيطرت عليه نخبة استئصالية، وسقط نظام مرسي لما مارست نخبته نفس عمليات الاستئصال وإقصاء للمخالفين حتى من داخل نفس التيار الفكري. وها نحن نعيش استئصالا وإقصاءً من نوع أخر ربما كان هذه المرة أشد لعنة، إذا أن عماده نخبة انتهازية لا تؤمن بفكر (وإن رفعت شعارات ليبرالية أو يسارية) ولا تحترم مبدأ ولو كان مبدأها .. ، وها نحن نعيد نفس أخطاء الماضي القريب. لم يكن الاستئصال حلا في الماضي، ولن يكون حلا في المستقبل، من عاب على الإخوان إقصائهم لمخالفيهم يقع في إقصاء أشد غباوة. إن الإخوان وإن أقصوا مخالفين إلا أنهم كانوا يعترفوا بوجودهم، أما هذا الإقصاء الموشى بمظاهر العسكرة فإنه لا يعترف حتى بوجود المخالفين ولا يحترم أفكارهم، وما الهجمة الشرسة على كل من يعارض الحكم الحالي إلا دليل واضح على الفشل المركب. ما لنا لا نسمع همسًا ولا حسًا لمن عارض أخونة الدولة، أين هم من عسكرة الدولة. إن تجارب الأمم والدول حولنا تثبت أن القمع والحلول الأمنية لن تنجح بل لن تجدي فتيلا، ولن تحقق استقرارا، ولن تخرجنا من عنق الزجاجة الذي أدخلنا فيه كلا الطريفين: أصحاب العناد عن قبول الحلول الوسط، وأصحاب الجيش وما يسمى ظهيرهم المدني الذي شرعن وجودهم بعد أن قبل به حلا وحيدا لإقصاء التيار الإسلامي جملة، وإن حرصوا على وجود حزب النور كمحلل إسلامي لعملية عسكرية بحتة. ليس هناك حلا إلا الحل السياسي القائم على التوافق والحلول الوسط، واعتماد مبدأ التفاوض كتصور حاكم للخروج من الأزمة الراهنة. ليس من الحكمة أن نكسر بابا مفتوحا، والباب المفتوح هو باب التفاوض والحلول الوسط والتنازلات المتبادلة، أما الاستحواذ وإلغاء المخالفين أو أقصائهم، أو المحاولات الغبية لتشويه سمعتهم واتهامهم بالإرهاب او اتهامهم بالكفر والخيانة، أو تصور تبخرهم في الهواء أو تلاشيهم من الوجود فهو الغباء ليس السياسي فقط بل الإنساني أيضا. إن العنف السياسي توظيف للقوة في غير محلها، والاعتراف بالأخطاء وسيلة لإصلاح العيوب وليس التغطية عليها والمكابرة فيها. لن تخرج من مصر من أزمتها إلا العقول المنفتحة على كل الحلول، المبدعة في إنضاج البدائل والمخارج. نريد في مصر الآن فكرة عبقرية، كفكرة الدائرة المستديرة التي لا تمنح مقعدًا متميزا أو يحمل معنى رئاسة الجلسة لأي طرف، حتى لو كان الطرف الذي يحمل بيديه السلاح والقهر، أو الطرف الذي يظن أن يملك بيديه مقاليد الشارع.