انتهت مباراة "غانا" و"التشيك" بفوز سعدت مع غيرى به، وكان انصرافى السريع عن شاشة التليفزيون بعد نهاية المباراة تعبيراً عن رغبتى فى تخفيف التوتر الذى صاحبنى طوال المباراة، والرغبة فى اجترار الإحساس بفرحة الفوز على مهل، وكيف لا أفرح؟ أليست "غانا" دولة أفريقية مثلنا؟ ألا يضاف كل نجاح تحققه إلى الرصيد الأفريقى الذى نستفيد منه عاجلاً أو آجلاً؟ كيف لا أفرح ببلد "نكروما" الرجل الذى أسس الدولة الحديثة وجعلها "غانا" المستقلة بعد أن كانت مستعمرة "ساحل الذهب"، والذى اعتبرناه فى الستينيات واحداً من أبطالنا الذين نساندهم ونشيد بهم ونذكرهم بفخر؟ وفجأة كما فى أفلام "الأكشن" الركيكة فوجئت بابنى ينادى: بابا.. إنهم يرفعون علم "إسرائيل"! التفت بسرعة إلى الشاشة لأرى بعينى ما كذبته أذنى منذ ثانية واحدة، كان أحد لاعبى "غانا" يرفع علم الكيان الصهيونى، وبعض زملائه يعلنون فرحتهم وهم يجرون وراءه. كنت على وشك أن أقول لابنى إنه أخطأ، وإنه لا يمكن للاعبى دولة مشاركة فى كأس العالم أن يرفعوا علم دولة أخرى، لأن هذا يعرضهم للمساءلة من قبل المسئولين فى دولتهم. كنت أستعد لكى أحكى له عن "نكروما" الذى وضعنا صورته فوق طوابع البريد رداً على الانقلاب الذى أسقطه، والذى دخل قلوب المصريين من أوسع أبوابها، بدليل أنهم جعلوه جزءاً من نكاتهم. لكن هذا كله مات على شفتى وأنا أشاهد علم الكيان الصهيونى بلونه الأزرق ونجمته السداسية، مرفوعاً بيد لاعب غانى. كانت الصورة قاسية، والأشد قسوة أن العالم كله يراها، فى إعلان دامغ لانهيار الدور المصرى فى أفريقيا، كان اللاعب الغانى يحمل علم العدو بينما إصبعه يكاد أن يدخل فى عينى وهو يشير إلى قائلاً: أنتم المسئولون. ومعه حق، فنحن المسئولون، والكارثة لم تبدأ من مباراة الكرة، ولن تنتهى بها. الكارثة بدأت منذ أهملت مصر عمقها الاستراتيجى فى أفريقيا، سواء فى الوسط حيث منابع النيل، أم فى الشرق حيث المعبر الطبيعى بين قارتنا الأفريقية ووطننا العربى، أم فى الغرب حيث يمر الطريق الاستراتيجى المعروف ب"رأس الرجاء الصالح"، وحيث يوجد تكتل إسلامى مهم ومؤثر، كان فيما مضى سنداً لنا فى صراعنا ضد العدو الصهيونى. كان سنداً لنا لأننا كنا حريصين على التواجد هناك باستمرار، وأذكر أن كاتباً من "مالى" قال لى: أعرف "جمال عبد الناصر"، فهو الذى أنشأ المدرسة التى تعلمت فيها، ورصف الطريق المؤدى إلى قريتى، وبنى فيها مستشفى. قلت له: وبعد ذلك. فقال: بعد ذلك لم يأت أحد من مصر إلى بلادنا. هذا الغياب عن الساحة الأفريقية كان خطأ فادحاً من جانبنا، استغله العدو الصهيونى الذى عمل على "ملء الفراغ"، خاصة فى منابع النيل التى أشعل فيها الحروب والصراعات، وألب الأطراف المختلفة ضد مصر، وفى شرق أفريقيا التى تحولت سفاراته فيها إلى حصون يستغلها أو يؤجرها للإدارة الأمريكية ولمن يدفع وينفع، كما حدث فى عملية اختطاف واعتقال المناضل الكردى "عبد الله أوجلان". ولم يكن اهتمام العدو الصهيونى بالغرب الأفريقى أقل درجة، فهو أكبر مخزن فى أفريقيا للقوة البشرية الإسلامية بعد المنطقة العربية، وهو مخزن البترول والمعادن، وهو بموقعه وإمكاناته أفق استثمارى دولى فى غاية الأهمية، لهذا كثف العدو الصهيونى اهتمامه به، وتواجد بقوة فى غانا والسنغال وموريتانيا ونيجيريا وساحل العاج، أرسل خبراءه وأمواله، وفتح جامعاته ومعاهده أمام الطلاب، وغازل أحلام الشباب بفرص عمل، كل هذا ومصر المنكفئة على ذاتها منصرفة تماماً وغائبة كل الغياب، كأنها ليست جزءاً من إفريقيا، وكأنها ليست المستهدف الأول من هذا التغلغل الصهيونى فى عروق أفريقيا، التغلغل الذى وصل إلى حد رفع علم الكيان الصهيونى فى أكبر محفل رياضى دولى، المحفل الذى غاب عنه علم مصر، لا لأنها فشلت فى الوصول إلى النهائيات فحسب، لكن لأنها "خرجت" من وجدان أفريقيا، ولم تجد من يرفع علمها اعتزازاً بدورها، ببساطة لأنها تنازلت عن هذا الدور!