اعتكاف المساجد سنة عند بعض العلماء تحفيزًا لقلوب المؤمنين، وتلمسًا لليلة القدر كما قال تعالى: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" (القدر:3)، أما الرباط في رابعة العدوية فهو فرض على كل مسلم ومسلمة، مصري ومصرية، من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، حماية للشريعة الإسلامية عقيدة وأخلاقًا وعبادة، ودفاعًا عن الضرورات الست: الدين والنفس والعرض والنسل والعقل والمال، وتخليصًا لمصر من انقلاب دموي سرق مصر من أحضان الثوار إلى العسكر، ومن تحكم صندوق الانتخاب دعمًَا للمسار الديمقراطي إلى تحكم الدبابة والبيادة دعمًا للمسار الدكتاتوري، مما ينذر بعواقب بدت ملامحها الأولى دماء وأشلاء لثمانية آلاف من الجرحى والشهداء، فانهار أمن المواطن، وزاد حصار المساجد، وتوالى قتل الساجدين في العريش والحرس الجمهوري ورمسيس، وعادت السرقات بالجملة، وعادت رموز مبارك وعلى رأسهم أحمد عز وأنس الفقي بكل وقاحة، في شكل براءات قضائية، وحقائب وزارية، وصارت تهاني الجبالي والنمنم وآخرون يجهرون بعلمانية مصر لا إسلاميتها، وأن الديمقراطية – عندهم – لا بد أن تسبح في بحر من الدم، وصار لواء الداخلية على الملأ يطالب بوقف صلاة الفجر، وحوصر مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية، واعتلى القناصة من الجيش والشرطة مئذنة مسجد فاطمة داخل جامعة الأزهر، وصوبوا الرصاص الحي إلى رءوس وصدور الأبرياء فقتلوا فوق المائة والخمسين، وصار البابا تواضروس يهنئ نفسه ومصر على صفحته على "تويتر" بقدرة الجيش والشرطة على قتل وجرح 4500 متظاهر في غداة واحدة عند النصب التذكاري بشارع النصر ليلة وصباح السبت 18 من رمضان 1434ه الموافق 28/7/2013م، وهو رقم يفوق كل من قتلوا وجرحوا في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وإنني والله أشهد ربي لقد خرجنا من رابعة في شارع النصر لا نريد سوى تخفيف الضغط الشعبي الهائل الذي فاق الملايين الثلاثة، وكنا نخاف من الزحام أن يقتل الناس اختناقًا في ميدان رابعة، وتحركنا سلميين، ووجدنا أعدادًَا هائلة من قوات الشرطة وسيارات مصفحة كثيرة وبلطجية بأعداد غفيرة، وباغتوا المسيرة السلمية بوابل من القنابل المسيلة للدموع، المفضية إلى التوتر والتشنج العصبي والإغماء والرغاء والقيء من الأنواع المحرمة والمجرمة دوليًا، ثم انطلقت البلطجية بحماقة نادرة وحراسة الشرطة، بقتل وضرب وسحل رهيب للسلميين في وقت السحر فاضطروا للدفاع بالحجر، ولما أصابوا بعضًا من البلطجية وجدنا كثيرًا منهم منقوشًا الصليب على أيديهم، بل شاهد عدد من المعتصمين ضابط شرطة يقوم بعمل القداس الصليبي ثم يطلق النار مرارًا تنشينًا على صدور المتظاهرين، واكتمل المشهد الدموي بقناصة من الجيش من مئذنة مسجد فاطمة الزهراء وكلية الدعوة بجامعة الأزهر والمنصة، وصار المشهد كله أصعب من وصف الكلمات، فقد رأيت دماء الشهداء والجرحى، في المستشفى الميداني فاقت يوم مذبحة الساجدين بالحرس الجمهوري، وعدت بالذاكرة للاعتكاف في المساجد لكنه صار ممنوعًا في مصر، ملاحقًا من أمن الدولة، فيباح لك الآن في مصر أن تقضي ليالي رمضان في الفنادق والصالات رقصًا وعريًا وسكرًا وفجورًا، وتكون محروسًا مرضيًا عنك من قادة ومطبلي الانقلاب العسكري، بينما الاعتكاف تلمسًا لليلة القدر، وتضرعًا لله أن ينقذ مصر مما حل بها جريمة كاملة يعاقب عليها أمن الدولة بالاعتقال والتعذيب وتفاجأ أنك إرهابي ويلبسونك تهمة حيازة أسلحة متنوعة، وخطة كاملة لقلب نظام الحكم، ونية قتل المسئولين، وهدم المنشآت والتخابر مع جهات خارجية خاصة حماس، والتآمر ضد مصر كلها، وأنت لم تزد على حيازة مصحف في بيت من بيوت الله تعالى، تصلى فتخشع، وتتدبرالقرآن فتخضع، وتدعو بحرقة وتضرع، وتخشى مع هذا على عملك ألا يرفع، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" (المؤمنون: 60-61)، فلم يعد للمتدينين والأحرار الأبرار الأطهار سوى ميدان رابعة العدوية والنهضة ملاذًا، يرابطون ويعتكفون منذ أكثر من شهر يتوسلون إلى الله أن يجعل مصر بلدًا آمنًا، وصرت أهتف بعلمائنا الذين آثروا العزلة والاعتكاف في مساجد مصر أو الخليج وغيره: تعالوا: هنا الرباط، وهو أعلى درجة من الاعتكاف في الحرمين، ولعلنا هنا نستحضر ما قاله عبد الله بن المبارك يعظ معتكفي الحرمين من أمثال الفضيل بن عياض بكلمات خلدها التاريخ أهمها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب جيده بدموعه *** فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل *** فخيولنا يوم الكريهة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا *** رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا عن مقال نبينا *** قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في *** أنف امرئ ودخان نار تلهب ومن هنا أنادي معتكفي المساجد تحت رقابة وتهديدات أمن الدولة، فروا إلى الله في ميداني رابعة العدوية والنهضة، لاستعادة أكبر بلد عربي من مغتصبيها الحقيقيين الصهيوأمريكان، وعملائهم من بعض العمائم الخليجية، والرتب العسكرية، والجيف الإعلامية، والهبيشة للكعكة المصرية الثرية، لكنك تدهش حقًا عندما تجد ثبات المرابطين في رابعة العدوية، من أمهات وآباء فقدوا أولادهم شهداء فيأتون بالعائلة كلها رباطًا في رابعة العدوية ووفاء لدم الشهيد، فتعجب من مروءات المصريين البسطاء، فضلاً عن الأعداد الهائلة من العلماء والدعاة الذين تقدموا الصفوف في الشهادة والجراح وكل المغارم كما قال الشاعر: كلانا إلى الهول بارى أخاه *** وخلف أخيه لدى المطمع نحن أمام صور نادرة من الإيمان والشهامة والمروءة والصبر والجلد والقوة والعزة تدهش كل المعتكفين في المساجد والكارهين للساجد، فهذا أب بسيط ثقافة ومدخن عادة، يقول على منصة رابعة العدوية: لقد نجح ولدي محمود ب97٪ في الثانوية العامة، وأبلغني من ميدان رابعة وأنا في القطار بهذا النجاح الباهر، فسجدت لله شكرًا على أرض القطار، فكافأني الله بالزيادة بأن أكرمه بالشهادة ليكون من أهل الجنة، كما قال تعالى: "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (إبراهيم: من الآية7)، وجاء بعد دفن ولده بكل أسرته من كفر الزيات معتكفًا في رابعة العدوية، أتحسبون أن الله يضيع بذل وثبات ومروءة هذا الأب وغيره، والله يقول: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" (البقرة: من الآية143)، "فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ" (الصافات:87)، إنه سبحانه يمهل ولا يهمل، "وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام: من الآية 147)، وعلى الجانب الآخر، "إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (التوبة: من الآية:120)، وسينفذ وعده للمؤمنين المرابطين المضحِّين،بالعز والتمكين، ولكنكم قوم تستعجلون. www.salahsoltan.com