هناك تراجع كبير في شعبية البي بي سي على مستوى العالم العربي ، هذه ملاحظة يسهل كثيرا على أبناء جيلي تأملها وإدراكها ، كانت البي بي سي هي المصدر الأول وربما الأخير في استقاء المعلومة والخبر والرؤية لملايين العرب ، الآن من الصعب أن تقبل بما تقوله البي بي سي قبل أن تستوثق عنه من مصادر أخرى ، كما أن الشبكة العالمية الشهيرة أصبحت في تراجع مستمر أمام أجيال جديدة من التجارب الإعلامية العربية الناجحة ، لعل أشهرها قناة الجزيرة في قطر وأيضا قناة العربية رغم التحفظ على توجهاتها ، ناهيك عن المواقع الإخبارية المختلفة ، بدون شك يعود جزء من سبب هذا التراجع إلى توالد خبرات إعلامية عربية جديدة متميزة أتيح لها مساحة حرية مناسبة لم تكن موجودة في السابق ، مما جعل البي بي سي غير متفردة في الساحة الإعلامية العربية كما كان الأمر في الماضي ، ولكن المؤكد أن الكسل المهني في البي بي سي كان سببا رئيسيا في تراجعها ، لأنها لم تطور نفسها ولم تعد جاذبة لكفاءات رفيعة ومتميزة ، بل إن المواهب التي كانت فيها هجرتها الواحد تلو الآخر إلى مواقع أخرى وقنوات أخرى ، هذا الكسل جعل قطاعا من العاملين في البي بي سي فريسة سهلة لتوجهات أقل ما يقال عنها أنها مشبوهة في اختياراتها والقضايا التي تلح عليها ووجهات النظر التي تتبناها ، ذكرني بذلك ما حدث مؤخرا من جدل حول التقرير الذي بثته البي بي سي عن قضية التنصير في مصر من خلال برنامج "ما لا يقال" ، الرؤية التي قدمت أعطتنا صورة عجيبة عن بعض من تحولوا عن الإسلام في مصر ، أشعرتنا أننا أمام قصص ألف ليلة وليلة ونعيش أجواء القرون الوسطى وليس في مصر التي نعيشها ونتنفسها كل صباح ومساء ، اهتم البرنامج باستعراض الأحاديث الخرافية عن الاضطهاد وأجواء الخوف والرعب التي يعيشها هؤلاء والتضحيات التي يقدمونها كما الشهداء والتواطؤ الحكومي الرسمي مع المتشددين الإسلاميين في الموقف من هؤلاء وحرمانهم من حقهم في الهوية الجديدة ونحو ذلك ، أحسست أن منتج هذا الفيلم هو أحد مواقع أقباط المهجر المتطرفة التي تبث يوميا أخبارا أسطورية من هذه الشاكلة ، استغربت جدا أن الفيلم الذي عرض كل هذه المساحة عن مصر واستقبل شخصيات تنصيرية عديدة لم يقابل أحدا من المختصين بهذا الملف في مصر ، ولم يقدم أي إحصائيات من أي طرف محايد ، كما لم يكلف خاطره عرض وجهات النظر المختلفة في الأشخاص الذين استعرض سيرتهم ودورهم في عملية التنصير ، مثل "الحرامي" محمد رحومة الذي كشفنا في المصريون عن سرقاته واختلاساته والتي انتهت إلى الحكم عليه بالسجن المؤبد في قضايا معروف أنها مخلة بالشرف ، ومثل المتنصرة نجلاء الإمام التي تعيش الآن عيشة الباشوات بعد فقر ومعاناة في حي عين شمس من أين أتتها كل هذه الأموال ، بل إن نجلاء عندما تحدثت عن "المستفيدين" من لعبة التنصير لم يكلف البرنامج نفسه تقصي هذه المسألة أو استيضاحها كأنه قصد قصدا التعتميم على تلك "الفضيحة" ، كما أن البرنامج تجاهل تماما عمليات المطاردة والترويع للمتحولين من المسيحية ومر كما الطيف الخاطف على قضية مروعة مثل قضية وفاء قسطنطين ، فإذا علمنا أن المادة التي تم جمعها لهذا البرنامج كانت ضعف المساحة التي تم عرضها على المشاهدين قبل عملية "المونتاج" ، فهذا يعني أن عملية الانتقاء كانت مقصودة قصدا لإعطاء صورة تشوه الحالة الإسلامية في مصر وتجرحها ، ولعل هذا المعنى هو الذي جعل قيادات قبطية عديدة داخل مصر وخارجها تحتفل بالبرنامج وتعيد بثه في مواقع الأقباط المختلفة ، أذكر أن تليفزيون البي بي سي كان قد عرض لنفس الموضوع في برنامج إخباري قبل عدة أشهر ، ودعاني للتعليق الحي على مشاهد وحوارات أذاعوها من غرفة البث التابعة لهم في القاهرة ، وما إن بدأت التعليق وكشف حقائق معينة تعمد البرنامج إخفاءها حتى فوجئت بالبث ينقطع ، وظهرت "مسرحية" المذيع وهو ينادي علي دون أن يسمعني ، ثم اعتذروا للمشاهدين بأن الخط الهاتفي بين لندنوالقاهرة قد انقطع ، وكأنهم كانوا يتصلون بمقديشيو وأصابت قذيفة مدفع مبنى الإذاعة ، وقتها تأكدت أن هناك توجهات "غير محترمة" في البي بي سي تجاه هذا الملف تحديدا ، كما منحتني تلك الواقعة تفسيرا إضافيا لأسباب تراجع البي بي سي مهنيا في السنوات الأخيرة مما أفقدها عرشها الإعلامي الذي كانت تتيه به فخرا . [email protected]