يبدو أن الاستهبال هو شعار المرحلة الانتقالية، وذلك بعد أن اعتدنا على سماع الخطاب الخرافي والذي لا يحترم عقلًا ولا يعبأ بالسامعين أساسًا، وإلا فما معنى تكرار الحديث عن ثلاثين مليون مواطن نزلوا في الشوارع والميادين من أجل تفويض الفريق السيسي مثلًا في الحشد الذي تم الجمعة الماضية، وهو كلام أساطير تفترض أنه لم يبق رجل ولا امرأة في مصر إلا وترك بيته وعمله ودنياه للخروج إلى الميادين والشوارع، لأنك إذا أخرجت من عدد سكان مصر الثمانين أو الخمسة وثمانين الأطفال والشيوخ والعجائز والمرضى وملايين العاملين بالخارج ورجال الشرطة والجيش والعاملين في المهن الاستثنائية كوسائل النقل والمواصلات والمستشفيات وخلافه، فإن ما يتبقى تقريبًا يكون حوالي ثلاثين أو أربعين مليون مواطن، فهل خرج هؤلاء فعلًا عن بكرة أبيهم حتى فرغت بيوت مصر في العاصمة والإسكندرية ومدن الدلتا والصعيد والقرى والنجوع والكفور، أم أنه الاستهبال في ضرب أرقام فارغة ويستحيل على أحد أن يثبتها؟! فضلًا عن كونها مناقضة للعقل والمنطق والحساب الرياضي البسيط، بعضهم لزوم الدقة الشديدة حددهم بثمانية وعشرين مليونًا ونصف!! وكنت في ذلك اليوم مسافرًا أتجول بين المحافظات وأرى الناس في حياتها العادية إما في البيوت حيث دارت أزرار الريموت كونترول على القنوات العربية والأخرى التي تعرض المسلسلات التي امتنعت عن بثها القنوات المصرية لضمان خروج الناس، والمقاهي عامرة والمساجد في صلوات التراويح التي تمتد حتى العاشرة ليلًا وحركة التجارة والمحلات والتسوق تسير بوتيرة عادية جدًا، وكل هذا لا ينفي أن حشدًا كبيرًا خرج لتأييد هذا الجانب أو ذاك، لكن المبالغات الفجة من كل طرف حولت حكاية الملايين إلى نكتة، مثلما كان كل مائة نفر يتظاهرون في ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة العام الماضي يطلقون لقب "مليونية" على وقفتهم التي هي ليست أكثر من حمولة حافلتين قطاع عام، وعلى مسؤوليتي الكاملة فإن جميع من خرجوا الجمعة الماضية من أنصار السيسي أو أنصار الإخوان لا يتجاوزون الخمسة ملايين مواطن في عموم مصر، وبطبيعة الحال الكتلة الأكبر كانت في القاهرة، يمكن أن تقسمها باجتهادك، ثلاثة ملايين هنا واثنان هناك أو العكس أو مناصفة بين المعسكرين. أقول هذا الكلام ليس من باب الترف أو شغل الوقت، وإنما للتأكيد على خطأ وخطورة التلاعب بحكاية الحشود كبديل عن الاختيار الديمقراطي الأصيل، وهو الانتخابات المعبرة عن الإرادة الصحيحة والدقيقة للشعب المصري، وكل محاولة لاستبدال حكاية المليونيات بالانتخابات فهي هدم لقواعد الديمقراطية ونكوص عن أبجديات أهداف ثورة يناير، ولو كل رئيس أو قائد عسكري أو زعيم حزب سياسي أو أمير جماعة لجأ إلى استعراض عضلات الشوارع متصورًا أنه يصنع "شرعية" جديدة بديلة لتحولت البلاد إلى فوضى ولما كانت هناك حاجة للديمقراطية ومؤسساتها أساسًا، ويمكن أن نحول اللجنة العليا للانتخابات إلى اللجنة العليا لرصد وتقييم المليونيات، وبصريح العبارة فإن هذه اللعبة هي لعبة الديكتاتوريات وليست لعبة النظم القانونية أو الديمقراطية، من حق الجميع أن يتظاهر ويحتشد ليعبر عن رأيه ويثبت حضوره في الشارع ولكن ليس من حق أحد أن يعتبر هذا الحشد بديلًا عن القانون أو الدستور أو الديمقراطية وقواعدها، وأخشى أن تتحول مثل هذه اللعبة إلى ما يشبه لعبة الثلاث ورقات التي نخدع بها الناس والعالم لكي نخطف ما ليس لنا بحق في غفلة من الجميع. كل قوى الثورة وتياراتها الوطنية والإسلامية والمدنية، من كل الأطياف، في حاجة ماسة الآن إلى اليقظة الكاملة حتى لا نفاجأ بسرقة الثورة وكل مكتسباتها بمثل لعبة الثلاث ورقات هذه، وعلى الجميع أن لا تستنزفه الخصومات الصغيرة والخلافات العارضة عن التمسك بقواعد الديمقراطية والدولة المدنية وسيادة القانون والحريات العامة والتداول السلمي للسلطة، وعلى مؤيدي خطوة الجيش الأخيرة في 3 يوليو الالتزام الصارم والحرفي بخارطة المستقبل الجديدة وإلزام كل شهودها وضامنيها بذلك بحيث يكون لدينا دستور وبرلمان وحكومة منتخبة ورئيس منتخب خلال ثمانية أشهر على أقصى، وأي تجاهل لهذه الثوابت أو تلاعب بها أو التفاف حولها فهو خيانة للثورة سيدفع الجميع ثمنها فادحًا بعد وقت ليس بالبعيد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.