لعل فكرة القابلية للاستعمار هي أخطر وأهم ما علق بالذاكرة الثقافية العربية من تراث مالك بن نبي، وعلى الرغم من القبول الواسع للفكرة في مراحلها الأولى، بفعل إبهار الجدة فيها والمفاجأة، إلا أن الفكرة لاقت قدرًا متعاظمًا من التمرد في السنوات الأخيرة من قبل قطاعات جديدة من المثقفين، بما فيهم مثقفون إسلاميون، وأذكر أنني كنت في أمسية فكرية مع بعض الأصدقاء من المثقفين المصريين والعرب، وكان الحديث بيننا هادئًا عن أحوال الأمة وقضاياها وتحدياتها القائمة والمستقبلية، حتى أتى ذكر مالك بن نبي رحمه الله ونظريته عن القابلية للاستعمار، حيث انتفض الصديق المفكر الفلسطيني المرموق، وقال: هذا هراء، أين هي هذه القابلية للاستعمار طوال تاريخنا كله؟ لم يأت غاز ولا مستعمر إلا وقاومناه، ودفعت هذه الأمة طوال تاريخها الحديث والقديم ضريبة الدم والروح والمال دفاعًا عن وجودها وانتصارًا لكرامتها، متى كانت هذه القابلية للاستعمار موجودة، هذا وهم ثقافي صنعه مالك بن نبي وانبهر به مثقفون مهزومون، كانت كلماته مندفعة كطلقات مدفع رشاش يصعب أن توقفها، وكان واضحًا أن الغضب من الفكرة مدفون في وجدانه فوجد اللحظة التي انفجر فيها من خلال الحوار، والحقيقة أن فكرة مالك بن نبي عن مسألة "القابلية للاستعمار" نجحت في أن تحقق انتشارًا كبيرًا في المحيط الثقافي الإسلامي والعربي خلال النصف قرن الأخير كله، بل إن الفكرة كانت تملك من الإبهار والمفاجأة أن جعلت مفكرًا وأديبًا مثل إحسان عبد القدوس يفرد لها كما أسلفنا مقالًا كاملًا في افتتاحية مجلة روز اليوسف التي كان يرأسها أيام عزها الكبير في أواسط الخمسينات من القرن العشرين، مبشرًا القراء بنظرية رائعة جديدة جديرة بالتأمل والترحيب، بيد أن فكرة مالك عن القابلية للاستعمار كانت مثل غيرها من الكثير من الأفكار الإسلامية والعربية التي ظهرت في تلك الفترة، كانت أسيرة للحظة التاريخية التي تعيشها، وأحيانًا للتجربة السياسية أو الاجتماعية التي عاشها المفكر أو الأديب، مما يجعلها عاجزة عن تفسير سياقات تاريخية كثيرة، كما أنها بطبيعة الحال كانت عاجزة عن أن تقود مجتمعاتها نحو التقدم والنهوض، لأنها لم تكن قادرة على احتواء أبعاد الزمان والمكان والماضي والمستقبل والخريطة الإنسانية الحالية في مدركاتها وهي تكتمل في ضمير الكاتب أو وعيه، وكانت أقرب إلى جلد الذات أو إعلان عن الإحساس بالألم، مالك كان متأثرًا بدون شك بتجربة الجزائر مع الاستعمار الفرنسي، وهي تجربة كئيبة للغاية، كما أنها الحالة الاستعمارية الأطول في العالم العربي كله، خرجت في ظلها أجيال من الشعب الجزائري لا تعرف سابقًا ولا لاحقًا سوى الوجود الفرنسي الاستيطاني، والذي لم يكن وجودًا سياسيًا وعسكريًا مثل الإنجليز في مصر مثلًا، وإنما كان حالة استيطان كاملة، رتبت أوضاعها بحيث تكون تلك البقعة من أرض العرب والمسلمين جزءًا لا يتجزأ من فرنسا، في النظم التعليمية والإدارية والثقافية والسياسية وحتى المنشآت والتخطيط العمراني، مع حرص شيطاني على عزل الشعب الجزائري العربي المسلم عن أي قدرة للنهوض أو الانبعاث ولدرجة أن فرنسا خرجت من الجزائر و93% من الشعب الجزائري أميون، وكان من الطبيعي أن تنشأ أجيال تتعايش مع هذا الواقع الجديد الذي ولدوا في ظله بل ولد آباؤهم وأجدادهم في ظله، وربما تصور مالك في تأملاته في هذا الواقع المعقد أن بنية المجتمع الثقافية والروحية والعلمية تنتج حالة من الضعف والفراغ التي تتيح لقوى الاستعمار أن تتمدد فيها، كما أن بعض النماذج من المثقفين المتفرنسين في الجزائر كانوا يروجون أفكارًا مؤيدة للوجود الاستعماري، وهذا لم يكن أيام مالك وحده، بل وحتى الآن، فلا شك أن هذه الأجواء كانت حاضرة في تأملاته وهو يطرح فكرته عن القابلية للاستعمار، بمعنى وجود صفات وخصائص طارئة للأمة تجعلها مستعدة نفسيًا وفكريًا للقبول بوجود الاستعمار، ورأى مالك أن حديثنا المتكرر عن الاستعمار ومقاومة الاستعمار كان شماعة نعلق عليها ضعفنا وسلبياتنا وخواءنا الروحي والفكري الذي جعل الاستعمار يتمدد فينا، وأكد مالك أن هذه القابلية ليست مجرد الانكسار العسكري، فألمانيا واليابان انكسرتا عسكريًا في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك نهضتا خلال عشر سنوات فقط لكي تمثلا قوة اقتصادية وسياسية ناهضة تزاحم ثم تسبق على الصعيد الدولي، بيد أن المشكلة أن فكرة مالك ذاتها تحولت إلى "شماعة " هي الأخرى لقطاعات من المثقفين العرب والمسلمين الذين ينتقدون أي روح للمقاومة الفكرية أو الروحية أو المادية للهيمنة الأجنبية في العالم العربي والإسلامي، بدعوى أن علينا أن نصلح أحوالنا أولًا، وأن نقاوم الأمراض الدفينة في بنيتنا الفكرية والدينية والسياسية، قبل أن نواجه ضغوط الآخرين، بل اتسعت تلك الرؤية للدعوة إلى حرمان شعوب العالم الثالث من الحرية والديمقراطية بدعوى أن الشعب لم يتطور بشكل كافٍ بحيث يستوعب هذه النظم العصرية، بل إن كاتبًا أمريكيًا من أصول إفريقية لم يجد حلًا لهموم إفريقية إلا بعودة الاستعمار الأوروبي من جديد حاكمًا لشعوبها، غير أن ما يبقى لنا من فكرة مالك بن نبي هو أهمية الانتباه إلى خطورة توجيه طاقات الغضب إلى الآخر بينما نتجاهل توجيه طاقات الغضب إلى الذات المتخاذلة والمتكاسلة والمفرطة في واجباتها الإنسانية والدينية والحضارية، والتي يبدو وكأنها تتعايش بدون اكتراث مع واقعها المهترئ علميًا وإداريًا وتنظيميًا وقيميًا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.