يمثل المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي أحد أقطاب الفكرة الإسلامية المعاصرة في العالم العربي بشكل خاص، ومحور أساس من محاور تفكير الإسلاميين الجدد، مالك درس الهندسة أساسًا وأقام في فرنسا ثلاثين عامًا، وتعرض هناك لمضايقات عديدة مبكرة وصلت إلى حد محاربته في العمل والوظيفة بوشاية من المستشرق المعروف لويس ماسينيون بعد أن اطلع على مقالات له وكتابه الفذ "الظاهرة القرآنية"، على حد قول مالك، فاضطر إلى الهجرة إلى القاهرة، حيث أقام فيها قرابة عشر سنوات هي أخصب وأهم سنوات عمره، بدا فيها مغمورًا في البداية لا يعرفه أحد، ولا حتى اللاجئون الجزائريون والدارسون المغاربة، وكان يسكن في غرفة حقيرة للغاية في بدروم عمارة تخصص عادة للبوابين وحراس العقارات، ويشاء الله أن يكون اكتشاف مكانة مالك وتعريف الرأي العام المصري عليه هو الأديب الكبير إحسان عبد القدوس، ورغم أن إحسان كان لا يهتم أساسًا بالجانب الديني ولا الفكر الديني، إلا أنه حدث أن زاره مالك بوصفه لاجئًا جزائريًا في مكتبه في مجلة روزا اليوسف، وكان إحسان يتصور أنه سوف يقابل شخصًا بائسًا يطلب مساعدة أو وظيفة، وقابل مالك باستهتار كبير حسب كلامه ولا يعبأ بالكلام الكثير الذي كان يقوله، إلا أنه مع مرور الوقت بدأ ينتبه إلى الحديث، ويتأمل، وترك كل ما في يده وراح يصغي إلى هذا "اللاجئ" الجزائري الغريب، ونشر إحسان مقاله التاريخي في عام العدوان الثلاثي على مصر 1965 تحت عنوان "الاستعمار في نفوسنا" حكى فيه وقائع المقابلة وفكرة مالك بن نبي حول القابلية للاستعمار وانبهاره الكبير بلمحات مالك الفكرية الرفيعة، كان مقال إحسان بمثابة الإعلان عن وجود مفكر كبير غفل عن الناس، فبدأت الأوساط الثقافية تبحث عنه، والأمر المثير للدهشة كما حدثني صديق عمره ورفيق غرفته العلامة المغربي الدكتور عبد السلام الهراس أمد الله في عمره، أن مالك بن نبي اكتسب تعاطفًا كبيرًا من بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر، رغم الصدام المروع بين الثورة وبين جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وأنه عندما طبع مالك على نفقة بعض أصدقائه، لأنه كان معدمًا، كتاب "شروط النهضة" تطوع كمال الدين حسين، وكان عضوًا بمجلس قيادة الثورة ويتولى وزارة التعليم، تطوع بشراء ألفي نسخة من الكتاب، وزعها على المدارس، كما أن الرئيس السابق أنور السادات كان مبهورًا بمالك، وأنه اختاره لكي يكون مستشارًا ثقافيًا له في منظمة المؤتمر الإسلامي التي أنشأها عبد الناصر لكي تكون جامعة للشعوب الإسلامية في الستينات، وقرر السادات لمالك راتبًا ضخمًا في ذلك الوقت حوالي خمسين جنيهًا، ولم يكن يريد منه أي عمل أساسًا، وإنما أراد أن يوفر له عونًا يجعله متفرغًا للبحث والتأليف، ولكن مالك ساءت ظنونه كثيرًا في الثورة ورجالها بعد أن رأى صديقه وأستاذه محمود شاكر وهو يزج في السجن لأنه خاض منازلة فكرية حادة وصارمة مع بعض المفكرين اليساريين المهيمنين على المؤسسات الثقافية الرسمية في ذلك الوقت، مثل لويس عوض ومحمد مندور وغالي شكري، كان محمود شاكر أشبه بالبلدوزر، طاقة علمية وثقافية مروعة، إذا صدم أحدًا فمن المؤكد أنه سيمحقه، وهذا ما فعله مع لويس عوض، حتى إنه جرسه في فضائح علنية سواء في فهمه للتراث العربي وحتى قدرته على قراءة المعري، أو حتى في حساسيته اللغوية في الأدب الإنجليزي الذي يفترض أنه مجال تخصص لويس عوض فكشف شاكر عن أخطاء فاحشة لعوض في هذا الباب، ولما عجزوا عن مواجهته استعدوا عليه العسكر، فانتهى الأمر به إلى السجن، وتم إغلاق مجلة الرسالة الجديدة التي كانت تنشر مقالاته، كانت هذه الواقعة مؤلمة للغاية لمالك، لأنه كان يحمل اعتزازًا كبيرًا لعلم شاكر وفضله وقيمته كمفكر ومحقق من طراز رفيع، وعاد مالك بعد تحرير الجزائر ليكون وزيرًا للتعليم هناك، لكنه لم يصبر على العمل الرسمي كثيرًا، أو لعلهم لم يصبروا عليه كثيرًا، وقد ترك مالك تراثًا فكريًا مهمًا للغاية وخاصة كتابه " شروط النهضة " والظاهرة القرآنية، كما أطلق فكرته حول "القابلية للاستعمار"، التي اعتبر فيها أن مجابهة الاستعمار ينبغي أن تبدأ من نفوسنا ومنظومتنا الاجتماعية والثقافية المهترئة التي جعلتنا مؤهلين لتمدد قوى الاستعمار، ولا أعرف من أبناء مالك من اشتغل بالفكر أو حمل رسالة أبيه، غير أن ابنته السيدة رحمة، وهي متزوجة ومقيمة في الولاياتالمتحدة كانت ترسل لي مقالات للنشر وجدت فيها روح أبيها ونبض فكره، ولعل الفضل في حفظ تراث مالك ونشره بعد الله تعالى يعود لشخصية بالغة النبل والوفاء والأمانة من أخلص أصدقاء مالك وهو المحامي والوزير اللبناني السيد عمر مسقاوي، وكان رفيق أيام مالك في القاهرة أثناء الدراسة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.