لا نعرف في العالم دولة صافية العرق أو الدين ، فكل دول العالم بلا استثناء تعرف التعددية علي مستوي الأعراق والإثنيات وعلي مستوي الأديان بالطبع ، ولأن العلمانية الغربية صممت خصيصا علي مقاس المجتمعات المسيحية ، فإنها تتسامح مع الرموز المسيحية وتعتبرها المصدر الرئيسي للثقافة العامة في المجتمعات الغربية وأكبر دليل علي ذلك أنه حين أرادت وزيرة مسلمة في أحد ولايات ألمانيا منع الرموز المسيحية كالصليب وكما يفعلون مع المسلمين في المدارس قامت الدنيا هناك واعتبروا أن الصليب رمز مسيحي يعبر عن الثقافة المسيحية العامة ولا يمكن مقارنته بالحجاب . وحين يتم العدوان علي مقدسات المسلمين عبر القصص كما حالة سلمان رشدي أو الرسم كما في حالة الصحيفة الدانماركية " بولاندس بوستن " والتي أعيد نشر رسومها المسيئة في العديد من الصحف الغربية في النرويج وألمانيا وسويسرا فإن ذلك يحدث في سياق مسيحي ضد نبي الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم يستبطن الروح الصليبية التي تنضح بالعدوان تجاه عالم الإسلام ولا يمكن أن تكون العلمانية المسيحية هنا محايدة بمعني أن تتيح للمسلمين وهم أقليات بعضها كبير في تلك البلدان من الدفاع أو الاحتجاج أوالرد أو الأخذ في الاعتبار حقوق تلك الأقليات التي ينبغي الحفاظ علي مقدساته ومشاعرها . في الغرب هناك ما يسمي بالدين المدني وهذا الدين المدني هو مجموعة السلوكيات أو القواعد التي تصيغ نمط الحياة الغربية وأغلبها مستمد من المسيحية ، فالدين موجود بقوة علي المستوي الفردي وعلي المستوي الجماعي ، وهناك ظاهرة الأحزاب المسيحية الديموقراطية في ألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول والتي تعتبر أحزابا محافظة تري أن الديموقراطية لها جذور مسيحية . العلمانية كما تم طرحها منذ مؤتمر وستفاليا 1648 والتي كانت تعبيرا عن الرفض للحروب الدينية بين الدول الأوروبية من ناحية ، ومحاولة أن تكون الدولة محايدة تجاه أصحاب المذاهب المختلفة المسيحية كالكاثولكية والأرثوذكسية والبروتستانتية وبالطبع اليهود ، كانت تعبيرا عن نوع من التوفيق المسيحي بين أصحاب ديانة واحدة والدين اليهودي الذي هو أحد مصادر الحضارة الغربية ، فالعهد القديم هو أحد مصادر الإلهام المسيحي المعاصر للبروتستانت ولم يعد هناك خلاف بين اليهود والكاثوليك ، بيد إن العلمانية تصبح مشكلة الآن وقد أصبح المسلمون أحد المكونات الرئيسية للمجتمعات الغربية ومن هنا فإن فكرة النظام العام الموحد للعلمانية التي تنفي أي حقوق لأصحاب المذاهب والملل المختلفة في تلك المجتمعات الغربية بما في ذلك بعض المذاهب المسيحية أصبحت أحد معضلات العلمانية وعلي سبيل المثال فإن مسألة منع الحجاب باعتباره رمزا دينيا للمسلمين تثير الفوضي في بلد كألمانيا إذا تتعدد مواقف الولايات من ذلك بينما تتيحه ولايات فإن أخري تمنعه ، وفي حالة ولاية كبرلين فإنها ألغت جميع الرموز الدينية بما في ذلك الصليب وهو ما أثار مشكلة مع المسيحيين والسكان هناك ، إذن ما أريد الخلوص إليه أن أطروحة العلمانية كحل للصراعات الدينية لم يعد لها ما يبررها الآن ، لأنه لم تعد هناك دول دينية ولا حروب دينية ، وأن الاتجاه نحو حقوق الإنسان واحترامها يفرض طرح صيغة مختلفة بديلة لتلك المشكلات التي تثيرها العلمانية . لا تعد العلمانية مشكلة فقط في أوروبا ولكنها في تركيا فبالأمس وافق البرلمان التركي علي حزمة من التعديلات الدستورية تتعلق بتشكيل مجلس القضاء الأعلي وأخري تتعلق بمحاكمة العسكريين بما في ذلك قادة الجيش الكبار أمام المحاكم المدنية في غير حالات الحروب ، وزيادة عدد قضاة المحكمة الدستورية من 7 إلي 11 وأن يكون للبرلمان الحق في تعيين بعضهم ، وبينما يتكلم أردوغان ومن معه علي أن التعديلات تهدف خير البلاد والعباد فإن حزب الشعب العلماني ومن معه يعترضون علي التعديلات ويريدون أن يكون للهيئات القضائية والعسكرية اليد العليا في النظام السياسي وليس الشعب أو البرلمان ، أي أن العلمانيين مع الاستبداد والعسكر ، وهدد هذا الحزب بالاعتراض أمام المحكمة الدستورية العليا . ومن بنجلاديش جاءتني معلومات موثقة عن وحشية حزب عوامي العلماني الحاكم هناك والذي تقوده الشيخة حسينه وهذا الحزب يريد أن يحول البلد إلي دولة علمانية تامة بمعني أن يقوموا بحذف مايشير إلي هوية بنجلاديش الإسلامية من الدستور الذي يحكم البلاد والذي كان وضعه الرئيس الراحل ضياء الرحمن ، وهنا مشكلة أخري . في ندوة نظمها مركز تاريخ الأهرام عن مستقبل الحركة الإسلامية في السودان قدمها الصادق المهدي الأسبوع الماضي رد علي من قال من الجنوبيين أن الحكم بالشريعة يعني تجزئة السودان وأن وجود التيار الإسلامي يعني تجزئة السودان فقال إن هوية السودان تحددها الأغلبية وهي الإسلام والعروبة وأن الأقليات من حقها أن تقول للأغلبية لنا حقوق ومطالب هي كذا وكذا ، هنا العلمانيون في جنوب السودان يسببون مشكلة لأنهم يريدون نفي الإسلام والعروبة . لا بد من إعادة التفكير مرة أخري حول أن العلمانية حل لمشكلات المجتمعات المتعددة، فقد أثبت الواقع أنها أزمة ومشكلة وداء وليست حلا ولا دواء .