التعليم ليس قضية غائبة عن (مائدة) النقاش في مجتمعاتنا العربية، وأحسب أن الذي استجلب تلك القضية فوق مائدتنا هو شعورنا العام بأن ثمة مشكلة أو أزمة في نظامنا التعليمي بدليل الضعف الكبير في مخرجات التعليم وضعف روح التعلم لدي أبنائنا وبناتنا، ومما يعكس ذلك الضعف أن أحد أصدقائي وهو الأستاذ صالح الناصري بادرني بسؤال دون مقدمات حيث قال لي: ألا تلاحظ أن طلابنا لا يغشون في الاختبارات هذه الأيام؟ قلت له بعد أن فركت ذقني: صدقتَ!، فأنا أعيشها تماماً مع طلابي وثمة فرق كبير بينهم وبين من سبق حيث ينزع بعض طلابي السابقين إلى الغش وقد أمسكت بأكثر من شخص في سنوات مضت!، فرد علي دون إبطاء: أو تظن أن السبب يعود لارتفاع وازعهم الديني والقيمي، كلا، بل السبب يعود لغياب الروح أو الدافعية الداخلية للتعلم، وزادني فقال: نعم الحقيقة المرة أنه ليس لديهم أي دافعية أو حرص على اكتساب الدرجات ولو بالغش! هذه الملاحظة المبدئية الذكية والتي أتفق معها تؤشر على بعض معالم الأزمة التعليمية وتنبّهنا لحجم الإشكالية التربوية التي نعيشها، وهذا ما حدا بنا إلى أن نتطارح حيال التعليم على المستويات النظرية والتطبيقية و الفكرية ونلامس في أحاديثنا رسالة التعليم وهمومه وتكاليفه وأعباءه وخططه وبرامجه ومشاريعه ومتطلباته، نعم نحن نتحدث كثيراً عن التعليم، غير أن الذي نفتقده بشكل كبير هو التباحث حيال المنهجية التي يجب أن نعالج فيها تلك القضية الخطيرة وإشكالياتها، كما أننا لا نتدارس بشكل متعمق طبيعة العلاقة بين ثقافة المجتمع والتعليم، وقد نتج عن هذا الأمر خلل كبير يتجسّد في عدم قدرتنا على تحديد أي منهما (الثقافة و التعليم) يكوّن الآخر وأيهما يعتبر تأسيساً أو تمهيداً للآخر. أي أنه ثمة فرضيتان متباينتان هما: * الفرضية الأولى التي تقرر بأن الثقافة الجيدة هي نتيجة حتمية للتعليم الفعّال. * الفرضية الثانية التي تؤمن بأن الثقافة الجيدة شرط ضروري للتعليم الفعّال. تذهب كثير من الأطروحات لدينا وإن بشكل ضمني إلى تأييد الفرضية الأولى، أي أن التعليم هو المسؤول عن إصلاح ثقافة المجتمع وبناء فكره، ويتبنى هذه الأطروحة - بحسب رصدي - بعض المسؤولين والتربويين الأكاديميين والممارسين، حيث يشدّدون على أنه لا نهضة بدون تعليم فعّال، وهم يطيلون (أحاديثهم) حول أهمية المكونات الأساسية للنظام التعليمي من مناهج وطاقم تعليمي ومتعلمين وبيئة مدرسية، ولكنهم يغفلون تماماً عن دور الثقافة في بناء التعليم الفعّال، ولا يغني استخدامهم لبعض الإشارات للثقافة أو الفكر في سياق تحليلهم وحديثهم، حيث إنهم يسوقون تلك الكلمات بطرق تشي بأنهم لا يتفهمون كما يجب وظائف الثقافة في المحيط الاجتماعي سواء كانت وظائف تشخيصية أو تعبوية أو بنائية أو تنبؤية أو تجديدية وهم بذلك لا يقرون على الحقيقة - بتأثيرها على المشهد التعليمي. أي أن أولئك المحللين يعتقدون أن على المجتمع أن يبني نظاماً تعليمياً فعالاً كي يكون قادراً على بناء ثقافة جيدة تقود المجتمع إلى تحقيق مستويات أعلى من التقدم في شتى الميادين، إذن يتبنى أولئك الفرضية الأولى حتى ولو حاول بعضهم الاستعراض وملامسة خيوط الفرضية الثانية! وثمة محللّون آخرون من المثقفين والمفكرين والباحثين يؤيدون الفرضية الثانية ويثبتونها بعد أن ينسفوا الأولى لسطحيتها المتناهية ولتجاهلها لوظائف الثقافة وحتمية تأثيرها، مما يفقدها أي لون من الحجية المنطقية أو البرهنة الفلسفية، وأنا أشاطرهم ذلك الرأي وأشدّد القول بتعذّر بناء تعليم فعّال دون أن يتوفر مجتمعنا على فكر منهجي نقدي نهضوي متعمق، فكر يكسب المجتمع القدرة على التغلغل في بواطن القضايا المعقدة والمسائل الإشكالية كالتعليم - لنمسك بتلابيب الحقيقة وننتزعها من الأعماق، بعد أن نزيل لفائف من المعلومات غير الحرجة والتي تطوّق قضية التعليم من كل جانب وتوهم الأكثرية، بل وتغريهم فيقعوا في حبائلها!! التفكير الاستبصاري... أداة جديدة للتحليل! التحليل السابق يقودنا إلى تقرير أننا مطالبون بمراجعة طرائق تفكيرنا حيال التعليم، كيما نكون قادرين على تحقيق نهضة تعليمية حقيقية شاملة، بل نبادر لنؤكد على أننا في مسيس الحاجة إلى أنواع جديدة من التفكير، وثمة نوع جديد من التفكير يهمني التأسيس لبنيته الفكرية والمنهجية في هذه المرحلة على أعالج جوانبه الإجرائية في أبحاث قادمة، هذا التفكير هو ما أسميه ب (التفكير الاستبصاري) وهو يشير إلى ذلك اللون من التفكير الذي يمتلك (قرون استشعار) ويتعامل بحساسية كبيرة تجاه القضايا محل التفكير من خلال معالجة أبعاد (المعادلة الحرجة)، أي أن التفكير الاستبصاري يتلمّس بحواس مرهفة وملاحظات تراكمية كافة الأبعاد الحرجة (أي الأكثر أهميةً وتأثيراً ونتائجَ) عبر عمليات ذهنية تحليلية راقية ذات طبيعة فلسفية توصلنا إلى تحديد ما يلي: أولاً: الحدث الحرج: عندما تتراكم الأحداث وتتزاحم في مسرح الحياة وتمتلئ مشاهدها بالقضايا والمشاكل الملحة وغير الملحة، المهمة وغير المهمة، الطارئة وغير الطارئة، عندها قد يفقد المجتمع قدرته على الإمساك بالحدث الأهم، وهنا تكمن أهمية الممارسة الواعية لعمليات التفكير الاستبصاري الذي يخترق ُحجب الغموض، وُيبدّد أستار التشوش لنتمكّن من تحديد ما نسميه ب (الحدث الحرج)، والذي يشير إلى القضية التي تنطوي على درجة كبيرة من الخطورة، أو توّلد الأسباب الكبرى لمشكلة أو معضلة ما، أو تتضمن سراً من أسرار الحل الذكي والعلاج الناجع. ففي التعليم نجد أن ميدانه يغص بأحداث كثيرة لا حصر لها ولا عد، منها الكبير ومنها الصغير، الصريح والضمني، المادي والمعنوي، الإداري والتربوي، السياسي والثقافي، الشامل والجزئي، فما هو الحدث الحرج الذي يتوجب علينا استغلاله أو صناعته لكي نفك شفرات التطوير ونتعرف على أسراره؟ ثانياً: الفعل الحرج: بعد أن نظفر بالحدث الحرج، يتعين علينا أن نحدد (فعلاً رشيداً) للتعاطي مع ذلك الحدث، وهذا الفعل هو ما نسميه ب (الفعل الحرج)، ومن سماته أنه يكلّف القليل ويعطي الكثير وبأسرع وقت ممكن، وهنا نعاود السؤال عن الفعل أو الأفعال الحرجة التي يجب تنفيذها بخصوص تعليمنا؟ هل كل ما نقوم به من جهود عبر الوزارات والمؤسسات المعنية واللجان المتخصصة يقع في نطاق الأفعال الحرجة؟ أم أن هناك حشداً من الأفعال والأفعال الكثيرة التي استنفدت أموالنا وجهودنا فيما لا طائل من ورائه سوى إنجازات صغيرة والأسوأ عندما تكون مصحوبة بفرقعات إعلامية! لاسيما أنه لا يتوفر لدينا أجهزة مستقلة على المستوى الوطني لتقييم أداء الجهات ذات الصلة بالتعليم، بل كل جهة تقيم ذاتها، وقد اعتدنا في كثير من الحالات على رمي التبعة على غيرنا، فالجامعات مثلاً - تشتكي من رداءة مستوى مخرجات التعليم العام وكأن هذا الأمر مع صحته مبرر للتخلص من تبعة التقييم والنقد الذاتي وعلى هذا فقس! وهذا خلل كبير يجب التفطن له وتصحيحه قانونياً وإدارياً وإجرائياً. ثالثاً: الزمن الحرج: هب أننا حددنا الحدث الحرج وتوصلنا إلى حل جيد (الفعل الحرج) إزاء مشكلة من مشاكل التعليم، فهذا لا يضمن لنا تحقيق درجة كافية من النجاح ما لم نكن قادرين على تحديد (اللحظة الحرجة) والتي تشير إلى الظرف الزماني الذي يجب إيقاع الحل فيه، بحيث تتعاظم الفائدة المجنية من جهة، ويسهل تطبيق الحل فيه من جهة ثانية، وتقل التكاليف التي يجب دفعها من جهة ثالثة. رابعاً: المكان الحرج: لا زمان بلا مكان، ولا مكان بلا زمان، فهما توأمان لا يفترقان (مكانياً) ولو للحظة واحدة (زمانياً)، ومن هنا نؤكد على أن تحديد اللحظة الحرجة لابد أن يكون مصحوباً بتحديد (المكان الحرج) والذي يشير إلى الظرف المكاني الذي يجب إيقاع الحل فيه، على نحو يمكّن المجتمع من قطف ثمار التراكم الفكري وترسخ بعض الأنساق القيمية في مكان ما عبر حدود الزمان. ففي التعليم نجد مثلاً أن برنامجاً تعليمياً ما قد ينجح في منطقة دون أخرى في لحظة زمنية معينة، وهذا ما يؤكد على بعد (الزمكان) في التفكير الاستبصاري. خامساً: المكوّن الحرج: ويشير إلى المكوّن الأكثر أهمية أو تأثيراً في منظومة العوامل أو المقومات للقضية محل التحليل، بمعنى أننا إن نجحنا في اصطياد ذلك المكوّن وتحديده وإجراء بعض التغييرات والتي قد تكون يسيرة- عليه فإننا نظفر بنتيجة كبيرة، وهذا يشبه ما يسمى ب (الرافعة) في التفكير المنظومي Systems Thinking ، فلو نظرنا للتعليم وطبقنا هذا المفهوم لقلنا أي المكونات أو المقومات أكثر أهمية أو أيها يعطينا نتائج أكبر إن نحن اشتغلنا على تعديلها وتطويرها؟ هل هو المنهج أم الأستاذ أم الطالب أم البيئة المدرسية أم شيء آخر يتعدى ذلك كله؟ كما أن المكوّن الحرج يتصف بالدينامية والحركة فهو ليس ثابتاً في حدود الزمان والمكان، وهذا يعني أننا نربط بين أبعاد التفكير الاستبصاري، فمثلاً نربط بين المكون الحرج والزمان الحرج والمكان الحرج وهذا ُيضفي تعمقاً أكبر في العلاقات التشابكية للعوامل والأفكار، وهو ما ننشده. خطورة تغييب التفكير الاستبصاري! غياب التفكير الاستبصاري يجعلنا ننزل قضايا صغيرة منزلة القضايا الكبيرة، كمن يعتبر أن مصيبتنا في التعليم تكمن مثلاً - في عدم استخدامنا لأنظمة التعليم الإلكتروني أو عدم تفعيلنا لبرامج التعليم عن بعد، أو كمن يتحدث عن أهمية المباني الحديثة وكأنها هي شفرة الامتياز التعليمي! هذا اللون من التفكير كارثي النتائج، إن نحن اعتمدنا عليه في تأسيس فلسفة التعليم وبنيته الفكرية وأسسه التحتية، ذلك اللون من التفكير يسطّح عقولنا ويميت قدرتنا على تلمس (البعد الحرج) في قضية التعليم، ويقنعنا بحلول جزئية هامشية تكلفنا الكثير ولا تكاد تمنحنا شيئاً غير فتات لا طعم له سوى في حلوق البعض! وبعد أن قررنا حتمية معالجة طرائق تفكيرنا إزاء قضايانا ومشاكلنا وأزماتنا ومنها مسألة التعليم، وحيث إننا طرحنا التفكير الاستبصاري كبديل وزعمنا فعاليته في تحليل تلك المسألة وإعادة هندستها وبنائها؛ فإنه يتعين علينا ممارسة ذلك اللون من التفكير وجلب بعض التطبيقات العملية ومناقشتها في فضائنا التعليمي [email protected]