إذا كانت لدى الكل قناعة بأهمية التعليم فى التنمية البشرية، فإن ثمة قناعة أخرى بأن ما لدينا من تعليم لا يتوافق بحال مع الصورة المثالية للتعليم الذى نبغيه. فأين منا هذه المدرسة النظيفة الجاذبة لا الطاردة، وأين منا هذا المدرس النابه الملتزم، وأين منا هذه الجامعة التى ينمو فيها الإبداع والخلق فى كل لحظة، وأين منا روح العدالة والموضوعية والديمقراطية فى بنية التعليم؟! لقد انشغل مفكرو مصر ورجال السياسة فيها بقضية التعليم منذ الولوج إلى الزمن الحديث منذ أكثر من مائتى سنة. ومن يطالع تجربة «محمد على» أو أفكار «رفاعة الطهطاوى» أو «طه حسين» يكتشف أن قضايا التعليم كانت الشغل الشاغل لأبناء مصر، ولاتزال هذه القضايا تشغل بال أبناء مصر هذه الأيام. وأكاد أجزم بأن لدينا من الفكر والاستراتيجيات حول التعليم وتطويره ما يمكن أن يصل بمصر إلى مصاف الدول المتقدمة فى مجال التنمية البشرية. ومع إدراكنا لوجود مشكلات عديدة فى الإدارة والتنفيذ، فإن المشكلة الأكبر هى تمويل التعليم. إن التحديات الناتجة عن التزايد السكانى وما يترتب عليه من تزايد الطلب على التعليم، تؤدى إلى أن تظل الإدارة عاجزة عن الحركة القوية التى تؤدى إلى بث مشروع قومى للنهوض بالتعليم، والانتقال من مرحلة «التدبير» إلى مرحلة «التطوير»، فالسياسة القائمة الآن تعتمد على سد الفجوات أو سد العجز فى مناطق معينة، وهذا النظام يؤدى إلى ترك المنظومة كلها على حالها دون تغيير، الأمر الذى يدفع بالمنظومة إلى أن تتآكل باستمرار. ولكى نحقق هذه النهضة، فإن علينا أن نتبنى حلولاً ثورية لمشكلة تمويل التعليم، حلولاً تتجاوز الأفكار التقليدية التى نرددها منذ أكثر من عشر سنوات دون جدوى.. ومن هذه الأفكار التى يجب أن نتجاوزها، القول بأن حل مشكلة تمويل التعليم تكمن فى مساهمات رجال الأعمال من ناحية والمجتمع المدنى من ناحية أخرى. إن هذا الرأى يحتاج إلى مراجعة، فيجب ألا نتوقع من عدد قليل من رجال الأعمال أن ينهض بدور هو دور الأمة برمتها، أو أن يتحمل مسؤولية قومية كبرى كالتعليم، كما أن المجتمع المدنى بالشكل الذى هو عليه غير قادر على المساهمة الفعالة فى ميدان تمويل التعليم، كما أن قضية التعليم ليست قضية مطروحة فى إطار العمل المدنى، الذى تغلب عليه مبادرات الإحسان والعمل الخيرى. إن التشكيك فى قدرة رجال الأعمال أو المجتمع المدنى على تمويل التعليم ونهضته، لا يعنى أبداً رفضاً لدور كل منهما، أو لمفهوم الشراكة الذى تقوم عليه التنمية المعاصرة؛ ولكنه يرمى إلى تأكيد دور الدولة ومن ورائها الشعب فى مثل هذا المشروع القومى، فالشعب الذى حقق إنجازات وانتصارات عبر التاريخ قادر على أن يجعل من قضية تمويل التعليم قضية قومية، وأن يتحمل المسؤولية تجاهها، وأن تكون الطبقة الوسطى هى الطليعة الرائدة فى تحمل هذه المسؤولية. فلقد ساهم التعليم فى بناء طبقة وسطى من المتعلمين أصحاب المهن المتخصصة: طبقة من الضباط، والمحامين، والمحاسبين، والمدرسين، وأساتذة الجامعات، والمهندسين.. إلخ. وهذه الطبقة هى التى تدير دفة الأمور فى مصر الآن، ففى يدها تقع مسؤولية حوكمة المجتمع رغم ما يتردد هنا وهناك – بغير وعى- عن ضمورها واضمحلالها. إن التعليم كان التربة التى نمت فيها هذه الطبقة.. وفى ضوء هذا فإننى أفترض أن مصير الطبقة الوسطى يرتبط بمصير التعليم. ويترتب على ذلك منطقياً أن يؤدى تآكل منظومة التعليم وضعف قدرتها على إنتاج بشر على مستوى عال من الحذق والكفاءة والانتماء، إلى ضعف الطبقة الوسطى وتراجع نوعية الحياة، ونوعية المعرفة والقدرة التنافسية لأعضائها ؛ كما أنها لن تكون قادرة على إدارة المجتمع وقيادته، ولا على القيام بأى مهام تاريخية. إن نهضة التعليم هى نهضة للمجتمع ككل، ولكنها أولاً وقبل كل شىء هى نهضة للطبقة الوسطى المصرية واتساع لقاعدتها وضمان لقوتها وقدرتها على الإدارة والحكم الصالح، وبذلك تتحول عملية النهوض بالتعليم إلى مسؤولية اجتماعية لأبناء هذه الطبقة. ونستطيع المبالغة فى هذا الأمر بالقول بأن نهضة المجتمع كله، بما فيه التعليم، هى مهمة تاريخية للطبقة الوسطى، خاصة شرائحها المتقدمة من أصحاب المهن المتخصصة الذين يتحملون بحكم تعليمهم ومهاراتهم ومعلوماتهم مسؤولية قيادة المجتمع ونهضته. وما ينطبق على أبناء الطبقة الوسطى هنا ينطبق على رجال ألأعمال، فهم أبناء هذه الطبقة.. وأحسب أنهم لايزالون ينتمون إليها فكرياً وثقافياً، وإن تحركوا بعيداً عنها اقتصادياً. وإذا كان التمويل هو مشكلة المشاكل فى التعليم فإننى أقترح أن يتحمل أبناء الطبقة الوسطى عبء تمويل التعليم فى إطار مشروع قومى لنهضة التعليم، تقوده الدولة بالشراكة مع أبناء هذه الطبقة. فهؤلاء يجب أن يقفوا يدا بيد مع الدولة، وأن يبذلوا كل طاقتهم للحفاظ على نوعيه ممتازة من التعليم، فى ضوء إدراك أن القضية برمتها ترتبط بمستقبل المجتمع وأمنه القومى والاجتماعى. ونقترح هنا أن يدفع مَن علمتهم الدولة تكاليف تعليمهم أو ما يمكن أن نطلق عليه «واجب التعليم».. يدفعونه طواعية دون إجبار، ويقدمونه واجباً لمجتمعهم نظير كل الحقوق التى حصلوا عليها. ويدفع هذا «الواجب» كل من تعلم واستقر فى وظيفة أو مهنة تدر عليه دخلاً كبيراً، أى بعد أن يكون قد قطع شوطاً طويلاً فى حياته وأصبح يتمتع بقدر كبير من الاستقرار الاجتماعى والاقتصادى، وهذا الواجب يدفع دفعة واحدة أو على أقساط وفقاً للظروف. ويجب أن نبدأ بقادة المجتمع من رجال الأحزاب ورجال السياسة والوزراء الحاليين والسابقين وأعضاء مجلسى الشعب والشورى السابقين والحاليين ورؤساء تحرير الصحف القومية والمستقلة، وأساتذة الجامعات الذين أعيروا إلى خارج الوطن عشر سنوات، والمستشارين الذين مر عليهم عشر سنوات فى وظيفة مستشار، ومديرى البنوك والشركات الاستثمارية، والأطباء الحاصلين على درجة الدكتوراه، والمهندسين من أصحاب المكاتب الاستشارية، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات فى القطاعين العام والخاص، وأصحاب المصانع والمشروعات الاستثمارية التى يعمل فيها أكثر من عشرين عاملاً، والمهاجرين إلى البلاد الأجنبية من خريجى الجامعات وكل من يرغب فى المساهمة. ثم يتاح بعد ذلك دفع واجب التعليم لمن يريد وفقا لقدراته. ولم أقصد بهذا الاقتراح مجرد تجميع أموال لتمويل التعليم أو أننى أقترح دفع ضريبة جديدة. أشير إلى ذلك لأن بعضاً ممن قرأوا هذا الموضوع فهموه على هذا النحو، وإنما قصدت أن أدعو إلى إكمال المشروع القومى لنهضة التعليم – وهو المشروع الذى يلقى تأييد رئيس الجمهورية وكل قوى المجتمع – بالبحث عن مصادر بديلة لتمويل التعليم. أستاذ علم الاجتماع – جامعة القاهرة