إن سر اهتمامنا الكبير إعلاميًا بطرق ووسائل محاربة الفساد، إنما هو في الواقع ناتج عن تفشي ظاهرة الفساد واستفحالها في المجتمعات والدول المختلفة، إذ لا يقتصر وجود الفساد على الدول النامية أو الفقيرة فحسب، وإنما هو ظاهرة عالمية تعاني منها دول شتى متقدمة أو نامية، إلا أن الاختلاف يكمن في حجم الفساد ومدى السيطرة عليه ودرجة تفشيه. والفساد الذي أقصده هو: الفساد الذي يتسبب فيه الإنسان بصفته صاحب حكم وولاية وسطوة إدارة عليا كما جاء في القران الكريم ((وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل)). لذلك نجد أن الفساد يترعرع وينتشر حيثما تكون مؤسسات الحكم ضعيفة، حيث تفسح الدولة وقواعدها له المجال ونتيجة لاختلال وضعف الأنظمة السياسية والاجتماعية والقانونية، وعندما تكون المؤسسات الرقابية كالبرلمان والقضاء والمجتمع المدني والجهات الرقابية مهمشة أو مصابة هي أصلاً بالفساد، وفي كل الأحوال فإن الفساد سيتفشى وينتشر بلا رحمة ولا هوادة كما نراه هذه الأيام. ومما لا شك فيه أن الدولة تهدف إلى تأمين قيادات واعدة تتمتع بالأهلية وبالجدارة الكاملة، حتى يتسنى لهذه القيادات أن تعمل بعلم وقدرة على إدارة وتسيير وتطوير الإنتاج والخدمات، وكذلك تصريف الأمور في جميع الأجهزة والوحدات والهيئات العامة والقطاع العام والشركات القابضة والمؤسسات بما يحقق عنصري التقدم والرفاهية في أقرب وقت ممكن للوطن ولكل مواطن علي أرض مصر المحروسة. لذلك قامت الدولة بسن القانون رقم 5 بشأن الوظائف المدنية القيادية بالجهاز الإداري للدولة والتي نصت مادته الأولي علي تحديد مجال سريانه، سواء من ناحية نوعية الوظائف أو الدرجات المالية المخصصة لها أو الجهات الموجودة فيها أو الأشخاص الذين يشغلونها. كما نصت هذه المادة في فقرتها الأولى على أن تسري على شاغلي الوظائف المدنية القيادية من درجة مدير عام أو الدرجة العالية أو الدرجة الممتازة أو ما يعلوها من الدرجات وما يعادلها، وبناءً على ذلك أصبح هذا القانون لا يشمل الوظائف القيادية التي أدنى من درجة المدير العام أو الوظائف غير القيادية وهي الوظائف النمطية والتكرارية التي لا يتحمل فيها العاملون مسئولية الرئاسة والإدارة والتوجيه والقيادة لغيرهم من العاملين. وعلى الرغم من كل ما بذلته الدولة من تخطيط وإعداد وتجهيز وإصدار للقانون رقم 5 حتى نتمكن من التحقق وتوفير الاختيار السليم لهذه القيادات الوطنية ذات الأهلية والجدارة والقدرة على البذل والعطاء والإدارة الرشيدة الفعالة والابتكار والتحديث والتطوير، إلا أننا وجدنا كل هذه الطموحات من قبل الدولة قد تبددت وصار القانون رقم 5 قانونا للاختيارات العشوائية وللمحاباة ومرتعا للمجاملات وأصبح قانونًا لكل الفسدة والفاسدين وتحول إلى قانون للمعتوهين وعاشقي أهوائهم وشهواتهم الشيطانية، وذهبت إرادة الدولة إلى تأكيد أن هذا القانون فى أدراج الرياح، ووجدنا أن الفساد الإداري قد عم علينا وعلى شركاتنا لعدة أسباب لابد من وضعها نصب أعيننا والعمل على وأدها مباشرة والمتمثلة في غياب المساءلة للسادة المسئولين عن الإعداد والاختيار لكوادر الصف الثاني وهم المسئولون عن أعمالهم، وعن أسباب فشلهم ومحاسبة من تورط في عمليات الفساد الإداري وغياب هذا المبدأ لم يسهم في ازدهار الفساد الإداري فحسب، بل ساهم في رفع الجرأة لدى هؤلاء الفاسدين على ارتكاب جرائم الفساد المروعة والقاتلة للطموحات الشخصية للعاملين وحقهم في الترقي وإحساسهم بثمرة جهودهم التي طال انتظارهم لها. أيضًا عدم القدرة على الحصول على المعلومات الدقيقة في وقتها وبصورة سليمة وانعدام الشفافية في أداء الأجهزة الحكومية والإدارة العليا وتسييرها في الاتجاه الذي يرغبون فيه يعد من عوامل وأسباب تفشي ظاهرة الفساد الإداري. أيضًا ضعف منظمات المجتمع المدني وانتشار الفقر ونقص المعرفة بالحقوق الفردية للعاملين وضعف جهاز الرقابة والمحاسبة وتبعيته للسلطة التنفيذية واستخدام المنصب العام للحصول على امتيازات خاصة دون وجه حق وقصور التشريعات التي تكافح الفساد وعدم وجود قوانين صارمة فعالة ضد الممارسات الفاسدة من قبل قيادات الشركات.. وانتشار الوساطة في الترقيات الحكومية وتوزيع الترقيات الخاصة بالدرجات القيادية العليا بعيداً عن الكفاءة، وبذلك ينعدم مبدأ تكافؤ الفرص في الحصول على الرجل المناسب في المكان المناسب، وكذلك وجود صلاحيات وسلطات للموظفين وللأجهزة وعدم استنادها إلى معايير وضوابط موضوعية.. يا سادة.. وبكل أسف أعلنها صراحة واضحة جلية أن القانون رقم 5 قد أضر بالدولة من الناحية الإدارية ولم يأت بالثمار التي كانت تتمناها الحكومة، وبات بدلاً من أن يكون عونًا لتغيير وتطوير القيادات الجديدة لتحسين أساليب العمل الحكومي تجاه الهدف القومي في التقدم وتطوير الإنتاج والخدمات مع مراعاة التطور العالمي الذي يجري من حولنا، أصبح عبئًا وسهمًا موجهًا وسيفًا علي رقاب المجدين وسوطًا يجلد كل من يعمل بإخلاص، وكل من يطمح بأن يحصد زرع عمله الدءوب لصالح فئة استحلت ما ليس لها ووصلت إلى مكانة لم ولن تكن لها في يوم من الأيام وعن طريق إدارة عليا لم تراع ضمائرها في اختياراتها، ولم تراع الله في أعمالها، وعملت جاهدة وبكل وقاحة باستخدام روح وجسد القانون رقم 5 والمتمثل بأنهم يختارون ولا أحد يراجعهم ولا أحد يضبطهم، ولا أحد يقول لهم لماذا فلان وليس علانًا؟! وأنا أري أن سلبيات هذا القانون كثيرة وفجة وعميقة، وفتحت الباب لكل من تسول له نفسه من الإدارات العليا في كل القطاعات الحكومية بأن يوظفه لمصالحه الخاصة، ولا عزاء للعاملين المجتهدين في ظل هذا القانون.