ابتداء أرجو أن أسجل اعتراضي، واستنكاري، وشجبي للطريقة التي تعاملت بها مؤسسة الرئاسة، وكذلك النخب المصرية والإعلام المصري بمجمله، في مسألة التعاطي مع قضية بناء "سد النهضة الإثيوبي". والتي آخرها اللقاء المفتوح، مستدركًا العبارة، وأسميه "اللقاء المفضوح .. الذي فضح وعرى كل المجتمعين وكشف عن مدى جهلهم وعجزهم وقلة الحيلة التي بدت في كلماتهم مهما كانت عباراتها قوية والتي عكست ربما عنجهية لم تعد موجودة في محاولة للدفاع عن هيبة مفقودة.. أو هيبة تآكلت أطرافها، أو في أقل تعبير.. هيبة مليئة بالثقوب!! وقد بدأوا عملهم.. بأن قلبوا الهرم على رأسه.. واسمحوا لي ألا أكرر خطأ الرئاسة بالتعاطي مع القصة بكاملها بطريقة الهرم المقلوب، وأن أعدل هذا الهرم، ولكي أبدأ القصة منذ بدايتها، سوف أحاول أن أكون موضوعيًا قدر الطاقة، وقدر اتساع المساحة المتاحة للكتابة.. · علينا أن نعترف بأن الملف الإفريقي خرج من بين أيدينا، وكان ذلك منذ بداية التخلي عن البعد الإفريقي الذي تمثله مصر، ونحن كما تعلمنا في المدارس أن مصر تدور في ثلاث دوائر.. الدائرة الإفريقية ثم الدائرة العربية ثم الدائرة الإسلامية. وأنا بدأت بالدائرة الإفريقية لأنها هي الأساس في الوجود.. لأن الجغرافيا تتحكم في الكثير من المعطيات السياسية والحضارية والدينية والعرقية.. وأن الجغرافيا تتحكم حتى في مصائر الشعوب في الماضي والحاضر والمستقبل.. من السهل أن تغير العقيدة واللغة والسياسة.. لكنك لا تستطيع أن تغير الموقع والجغرافيا.. ممكن أن تخرج من مصر.. لكنك لا تقدر على أن تخرج مصر من محيطها الجغرافي الإفريقي وتحملها في حقيبة أو طائرة أو حتى قطار.. · علينا أن نعترف بعجز الرئاسة والساسة والنخب المصرية الموجودين حاليًا على الساحة عن التعاطي هكذا مع ملف، شديد التعقيد، شديد الحساسية، وعلينا أن نعترف أيضًا بغياب الرؤية الإستراتيجية منذ أكثر من ثلاثين عامًا وبخاصة في علاقات مصر بإفريقيا، ذلك أن الذاكرة الإفريقية تتذكر مصر الستينيات فقط.. جيلاً وسياسة وجميلاً وعرفانًا.. وانتهى هذا كله بانتهاء عصر وموت آخر الرجال المحترمين، وأن علينا وعلى الأجيال القادمة سداد فاتورة عجز قياداتنا السياسية وانكفاؤهم على مباشرة أطماعهم الشخصية وأحلامهم في الحكم والتوريث، ومن بعد ذلك التمكين والهيمنة والإقصاء.. · اليوم.. واليوم فقط أدركت أهمية أن يكون لمصر قيادة سياسية طموحة، مبادرة، تتمتع بالرؤية السياسية والإستراتيجية الثاقبة التي تنظر إلى الأمام.. ترى ما لا يراه العامة، وتحس وتفهم كيف اهتم المصري القديم منذ أيام الفراعنة بالامتداد الإفريقي، وأن الشجرة المزروعة في أطراف مصر والتي تطل غصونها على مياه المتوسط.. تمتد جذورها إلى أبعد من إثيوبيا وأوغندا وكينيا.. وربما تمتد إلى مدينة أصغر كوت يطل على سواحل المحيط في جنوب إفريقيا.. · لقد نسينا أول درس علمنا إياه الإسلام.. وهو الذي انتشر بالتجارة والمعاملة الطيبة.. والقدوة وترك الأثر الطيب في نفوس من يتعامل مع المسلمين الأوائل.. والذي انتشر الإسلام بفضلهم في بلاد لا تفهم العربية.. ولقد أدرك عصر عبد الناصر هذه القيمة.. فتعامل مع إفريقيا معاملة الصديق والتاجر.. فاستضاف زعماءهم، وفتح مدارس وجامعات وبيوت مصر أمام الأفارقة، وفتح أمام أبناء إفريقيا مجالات التجارة والسياسة وحركات التحرر الوطني، كل حركات التحرر الوطني الإفريقي.. حيث أكمل السادات بعض هذه المهام، وكنت شاهدًا على رؤية الكثير منهم في مطار القاهرة، وكيف كان يتم استقبالهم والتعامل معهم. · لقد انفصل التاريخ المصري عن الحاضر المصري كثيرا.. وأصبح الخرق على أوسع مدى ولا يمكن رتقه بسهولة.. · ولو سمح لي القارئ فأوجز ما أريد قوله: إن الرئاسة أخطأت بمثل هذه الدعوة، لأن ما حدث أن من لا يقدر. اجتمع مع من لا يعرف، ليمسكوا بقط أسود في غرفة مظلمة.. وبعد أن نال منهم التعب اكتشفوا أن الكاميرات تصور ما يدور في الغرفة، وأن المشاهدين "ماتوا من الضحك" على المشهد الكوميدي الذي حدث.. لأن ما حدث شاهده الملايين عبر الشاشات وتناقله البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أبطال الرواية الكوميدي التي اشتركوا فيها وهم لا يعلمون.. حتى ردود الأفعال كانت تتسم بالخيبة والغفلة والاستعباط. وأتوقف عند هذا الحد وأسأل: إيه المطلوب يا عم يا اللي مش عاجبك حاجة؟ أقول باختصار إنه من الضروري الآن.. ولكي لا يفلت طرف الحبل الممتد من قطار شديد السرعة أن نعمل على ما يلي: · دعوة مجلس الأمن القومي لدراسة القضية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وهذه الاجتماعات سرية ولا يحضرها الرئيس. · دعوة وزارة الخارجية للتواصل مع سفراء الدول المعنية بالقضية وأيضًا غير المعنية.. وتدارس الموضوع دبلوماسيًا.. لأن الموضوع ليس سد النهضة فقط.. لأن المعلومات التي أعرفها أن القصة فيها أكثر من سد نهضة، وإن اختلفت الأسماء والأهداف والنوايا.. وإن اختلف الخصوم القادمون من أقصى شمال آسيا وجنوبها وشمال إفريقيا وجنوبها.. وشمال أمريكا.. أيضًا لوضع وتدارس موضوع الشراكة الإفريقية في كل شىء.. ابتداء من الماء والهواء والمصير المشترك.. دون استعلاء أو استعراض عضلات.. شعارنا هو العودة إلى أحضان إفريقيا الدافئة.. فأحضان أمريكا وأوروبا ليست دافئة على الدوام.. أو ليست دافئة أبدًا.. · القوى الناعمة.. أين دورها؟ الرياضة، والفن، والثقافة، السينما، والإذاعة التي توقفت موجاتها عن البث بكل لغات إفريقيا منذ أكثر من ثلاثين عامًا، الإذاعات الموجهة، وكذلك التليفزيون الموجه، التعليم والمشاريع الاقتصادية والفنية المشتركة.