قضيت أسبوعا في العاصمة السعودية الرياض بدعوة لحضور مهرجان الجنادرية السنوي الشهير ، والذي تحول إلى أحد أهم التظاهرات الثقافية وأكثرها حضورا في العالم العربي ، وبلا مبالغة كان الحضور هذا العام يقدرون بالمئات من مثقفين وكتاب وصحفيين وأدباء من مختلف أنحاء العالم العربي والمهاجر الأوربية والأمريكية وغيرها ، وشارك من مصر عدد كبير لدرجة يصعب تذكر الأسماء من الدكتور أسامة الغزالي حرب إلى حسن حنفي إلى محمد السعيد إدريس إلى الزملاء أيمن الصياد وعماد غزالي وعمرو أديب وأحمد موسى وكثيرون ، وكانت فرصة طيبة للحوار والتواصل مع أفكار وتيارات متباينة ومتناقضة أحيانا ، ولكن أجواء الجيرة والوقت الطويل نسبيا الذي نتقابل فيه في مقر الإقامة تتيح أجواء إنسانية أكثر ملاءمة للاستماع وتفهم وجهات النظر المختلفة ، وكانت كثافة اللقاءات والحوارات والندوات تسبب زحاما فكريا وضغطا في الوقت جعلت أحيانا من الصعب أن أخلص لكتابة مقالي في المصريون ، فكنت أكتب على سطر وأترك سطرا كما عبر أحد القراء ، وقد دعي هذا العام عدد من الرموز الفكرية والإعلامية ذات الحضور الدولي الكبير من مثل الألماني مراد هوفمان والأمريكي صمويل هينتجتون والفرنسي جيل كيبيل ومديرة اليونسكو الجديدة وغيرهم ، الجنادرية محاولة سعودية للانفتاح على مختلف التيارات الفكرية في العالم العربي والإسلامي ، ومحاولة لإثبات أن السعودية "تغيرت" وأن هناك أفكارا أكثر جرأة أصبحت تطرح الآن هناك ، وكان مثيرا للدهشة أن تكون أحد أهم ندوات المؤتمر تحت عنوان "السلفية" ، كموضوع للنقاش ، ودعي لهذه الندوة مجموعة متباينة من أصحاب الموقف من السلفية ، فألقى المفكر اللبناني رضوان السيد ورقة فكرية ناقدة بشدة للسلفية ، كما قدم المفكر الشيعي اللبناني المعروف هاني فحص كلمة حول السلفية وخاصة في الحالة الشيعية كما ألقيت أنا ورقتي حول الإحياء السلفي ودوره في جهود تجديد الأمة ، لم يكن ممكنا طرح هذه القضايا للنقاش بهذا الشكل في السنوات السابقة ، كما لم يعد خافيا أن المجتمع السعودي يشهد حراكا ثقافيا وفكريا ودينيا واسع النطاق الآن ، وشديد الحدة والصخب ، وهناك تيار تحديثي نشط يحاول أن يوسع لنفسه مكانا من خلال صدامه مع المؤسسة الدينية والتيار المحافظ في المملكة وهو الممثل لغالبية المجتمع ، وكلا التيارين "يصطاد" للآخر مواقف وتصريحات ليشن عليه هجوما عنيفا ، قد ينتهي كما حدث بالفعل إلى عزل قيادات أو حتى إبعاد شخصيات علمية من هيئة كبار العلماء ، وتنعكس هذه الصراعات والمشاغبات بوضوح في الإعلام السعودي في الداخل وما يتبعه خارج البلاد ، وتمثل صحيفة الوطن المنبر الأبرز في دعم المشروع الحداثي المندفع في الداخل ، كما تمثل قناة العربية وموقعها المنبر الأبرز لهذا التيار خارج المملكة ، وهذا الاشتباك الفكري العنيف يحظى برصد ومتابعة دقيقة للغاية من دوائر غربية مهتمة بالتطورات التي يشهدها البلد الإسلامي الأهم حاليا في المنطقة ، ولا تخفي زعامات غربية وأمريكية ترحيبها بهذا "الحراك" الجديد ، وقد منح أديب سعودي يدعى "عبده خال" جائزة البوكر الأدبية عن رواية كتبها وهي غير معروفة فاتهم على نطاق واسع بأنها مجاملة للتيار المتغرب في المملكة وبدا أن الاتهام له أصداء عربية أيضا لم تقتنع بشافية حصوله على الجائزة وما زالت المعركة دائرة حتى الآن ، وقد لاحظت أثناء الجنادرية أن نفرا من المثقفين السعوديين الناشطين في هذا التيار كانوا يهتمون بشكل ملفت جدا برموز التطبيع في الجانب المصري من أمثال الأديب علي سالم وهو أمر جدير بالتأمل ، الإعلام السعودي بشكل عام يشهد تطورا جديدا ، وسقف الحرية المتاحة للأخبار والتقارير والمقالات أصبح أعلى بكثير من السنوات الماضية ، على كل حال ، هذا مقال اعتذار عن الغيبة القهرية عن الزاوية الأسبوع الماضي ، ونتواصل دائما إن شاء الله . [email protected]