هذه المرة الأولي التي أزور فيها مدينة الرياض بعد أن غادرتها لآخر مرة منذ حوالي ثلاثة وثلاثين عاما. كنت في ذلك الوقت البعيد أعمل مستشارا دراميا في شركة للانتاج الفني يمتلكها شاب سعودي هو المخرج عبد الله المحيسن،كنا مجموعة ممتازة من العاملين في فروع الفن المختلفة غير أنني لا أستطيع أن أزعم أننا قدمنا هناك ما كنا نحلم بتقديمه فقد كان المناخ الفكري والفني في ذلك الوقت خانقا إلي درجة تجعل تحقيق أي إنتاج له قيمة عملا يكاد يكون مستحيلا،كان الأستاذ عبد الله قاسم رحمه الله المخرج في إذاعة صوت العرب واحدا من ضمن المجموعة،أما المسئول عن الإنتاج والشئون المالية والإدارية فكان هو الأستاذ يوسف عثمان نقيب السينمائيين الأسبق والمسئول الحالي عن الانتاج في مدينة الانتاج الإعلامي. أما المسئول عن أجهزة الصوت والتسجيلات فكان مصطفي سليمان وهو أيضا من العاملين في التليفزيون المصري. كانت الشركة تتكون من مبني إداري ومساكن للعاملين واستديو تصوير سينمائي وآخر للتسجيلات الإذاعية،وكان هناك أيضا استديو آخر يشرف علي المكان كله ويتحكم في الحركة فيه هو استديو الخوف،كان المطلوب منا أن نعمل بشكل شبه سري لكي لا تكتشف الجماعات السلفية حقيقة ما نقوم به من نشاط،كان صاحب الشركة يحذرنا دائما: لو المطاوعة عرفوا احنا بنعمل هنا إيه.. حايكسروا لنا المكان. كانت المعادلة صعبة للغاية،كيف نعمل في الانتاج الفني ونخفي عن الناس حقيقة ما نقوم به. غير أن عبد الله قاسم تعرف علي أحد المثقفين وأقنعه بكتابة مسلسل إذاعي تحت إشرافه،وفجأة انشقت الأرض عن مجموعة من الممثلين الشبان من طلبة الجامعات جاءوا وقد امتلأوا حماسا للعمل في المسلسل،كان معظمهم من كلية الإعلام،شاب واحد فقط من هذه المجموعة الممتازة ظل علي علاقة بي بعد أن تحول إلي مجال الإعلام هو داوود الشريان الكاتب في جريدة الحياة وصاحب البرنامج الشهير (واجه الصحافة) في فضائية العربية. كان لابد من التغلب علي صعوبة عدم وجود الكتب الدرامية في الأسواق،فالموجود علي رفوف المكتبات في معظمه كان كتبا تتناول شئون الدين وغير ذلك، بالطبع كان يتطلب موافقات مشكوك في الحصول عليها،أذكر في ذلك الوقت أن عبد الله قاسم استوقفوه في المطار بعد أن وجدوا معه كتابا عنوانه " المذاهب المسرحية" كانت هي المرة الأولي التي يعرف فيها المسئولون في الجمارك أن هناك مذاهب في المسرح تماما كما هي موجودة في الأديان،وقيض الله لعبد الله ضابطا مثقفا أنقذه وأنقذ الكتاب. كان لابد أن أقوم بتعريفهم هؤلاء الشبان بالمسرح العالمي وكانوا هم أيضا متعطشين للمعرفة. في ذلك الوقت كانت الكويت تستحق أن نطلق عليها مدينة النور،كل أنوار الثقافة والعقل وخاصة فيما يختص بالمسرح العالمي كانت مضاءة في ذلك الوقت،عرفت أن أحد الممثلين سيذهب إلي الكويت بسيارته فكتبت له كشفا طويلا بالكتب التي يشتريها من هناك،لم يفتشه أحد،وضعت الكتب علي الرف في سكني وطلبت منهم أن يعيد كل منهم الكتاب الذي ينتهي من قراءته،واختفت الكتب بعد أيام وسعدت لذلك. أمس الأول السبت،كنا،نحن أعضاء الوفود المشتركة في مهرجان الجنادرية الثقافي مدعوين لزيارة مكتبة الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية،الآن وبعد مرور كل هذه الأعوام أصبح للكتب في السعودية مكان تقيم فيه ويعرف الناس محل هذه الإقامة. كانت المناسبة هي إعلان جائزة الترجمة المقدمة من خادم الحرمين الشريفين،أسعدني بالطبع فوز هيئة الكتاب بالجائزة الأولي. هذه هي الدورة الخامسة والعشرون للمهرجان،وأيضا هي المرة الأولي التي توجه لي فيها الدعوة لحضوره. أكثر من أربعمائة شخص من المثقفين والأكاديميين من كل أنحاء العالم حضروا المهرجان الذي كان شعاره هذا العام هو( عالم واحد.. وثقافات متعددة) ثم عناوين فرعية كثيرة لعل أهمها هو ( الحوار مع الآخر والسلام) إذا لم أكن واهما.. هناك شيء جديد يحدث في السعودية هذه الأيام. مضت أعوام كثيرة،ربما خمسة عشر عاما منذ أن حضرت مناسبة أو مكانا يتجمع فيه مثقفون عرب وأجانب،كنت طوال هذه الأعوام ألقاهم ،أقصد المثقفين العرب والمصريين،علي شاشات الفضائيات أو في أعمدة الصحف يكيلون لي التهم والشتائم . أما هنا في الجنادرية فقد فوجئت أنهم جميعا ظرفاء،يبدو أن الكاميرات تصيبهم بحالة من الوحشية تنسيهم أي منطق سليم،هم جميعا هنا بشر يتسمون بالرقة والعذوبة ،ربما اكتشفوا أنني لست من وقع اتفاقية السلام مع إسرائيل،أو ربما تنبهوا إلي أن شخصي الضعيف لم يعد وحده من يتكلم عن السلام وضرورة الحوار مع الآخر،ما أدهشني حقا هو ذلك العدد الكبير من الشبان السعوديين الذين رحبوا بي بدرجة لم أكن أتصورها.. هناك شيء جديد يحدث في السعودية.