فوجئ المشاركون في الحوار الذي دعت إليه رئاسة الجمهورية لمناقشة أزمة سد النهضة الإثيوبي، فوجئوا بأن الجلسة كانت مذاعة على الهواء مباشرة مما سبب غضبًا شديدًا لدى غالبية الحضور، لأسباب بعضها شخصي وبعضها يتعلق بالاستهتار بحساسيات الأمن القومي، فبعض الذين شاركوا تحدثوا بطريقة غير متحفظة وفيها نوع من العفوية باعتبار أن الجلسة مغلقة وخاصة وغير معلنة وأقصى ما يحدث فيها أن تصدر رئاسة الجمهورية في نهايتها بيانًا عامًا عن مجرياتها وأهم المحاور التي ناقشتها وعموم المقترحات، ولذلك اعتبر هؤلاء أن إذاعتها من دون إخبارهم بذلك هو نوع من الخداع أو نصب "الشراك" لقادة الأحزاب، السبب الآخر للغضب أن هذا اللقاء كان بين قيادات الأحزاب السياسية ورئاسة جمهورية مصر من أجل مناقشة قضية بالغة الحساسية وفيها أبعاد خطيرة تتعلق بإمكانية إعلان حرب أو استخدام أدوات ردع محددة، وهو ما يعني أنها تتعلق بحساسيات عالية متعلقة بالأمن القومي في صميمه ، وهذه القضايا يستحيل مناقشتها على الهواء مباشرة ، إضافة إلى إذاعتها دون إخبار المشاركين ، وهو ما يعني أن الرئاسة أعلت من شأن "الاستعراض السياسي" والمكسب السياسي الداخلي الصغير بإظهار قدرة الرئاسة على جمع القوى السياسية حولها ، أعلت ذلك على جدية البحث عن المصلحة الوطنية العليا ، وعندما تسرب هذا الغضب نشطت آلة "التحليل" الإخوانية لمهاجمة المنتقدين لإذاعة اللقاء والسخرية منهم، وتم التشنيع على المنتقدين والطعن في نواياهم وفي عقولهم أيضًا وراحوا يتغزلون في أهمية إذاعة الحوار وأن ذلك رسالة لكذا وكذا، وكلام فارغ كثير امتلأت به المواقع والتصريحات والتسريبات، ثم أتت المفاجأة بعد يوم واحد من رئاسة الجمهورية لكي تعلن اعتذارها عن إذاعة الحوار على الهواء مباشرة وتؤكد أنه كان خطأً وتعترف بذلك صراحة، وهو سلوك عاقل من الرئاسة وتطور إيجابي في أدائها وتراجعها عن العجرفة والاستخفاف بغضب الرأي العام، ربما يكون ذلك متصلًا بالرغبة في عدم تصعيد الاحتقان والغضب قبل مظاهرات مقلقة في نهاية الشهر، لكنها في نهاية المطاف تصريح إيجابي أن تعترف الرئاسة بالخطأ، ولكن كان ضروريًا أن تعتذر الجماعة وكوادرها عن التصريحات المشينة التي برروا فيها إذاعة الحوار، وأن يعتذروا عن الإهانات التي وجهوها لمن تحدثوا عن خطأ ذلك التصرف. المشهد السابق يختزل لنا المشكلة التي طالما تحدثنا عنها في أداء الجماعة وسلوكها السياسي، وهي القدرة المذهلة على الدفاع عن الموقف وعكسه، وهو ما يرسخ لفقدان الثقة التام في الجماعة وسلوكها ووعودها والتزاماتها، لأن الرأي العام الذي يسمع التزام الجماعة أو حزبها أو الرئيس المنتمي لها بموقف أو مبدأ أو قرار، لم يعد يثق أن هذا الالتزام يستمر لشهر واحد فقط، وسيجد هذا الالتزام وقد تبخر وتراجعت عنه ثم يستمع إلى تحليلات وشروح وتبريرات عجيبة "تحلل" هذا التراجع وقيمته وضروراته، فإذا انتقدت توجه الرئيس يسارًا ستجد من يرد عليك بأنك لم تفهم العبقرية السياسية في هذا الاختيار، ثم إذا اكتشفت أنه اتجه يمينًا وليس يسارًا ستجد نفس الأصوات ترد عليك بأن هذا ذكاء سياسي وحكمة كبيرة!!، ولا داعي لذكر شواهد تلك السيولة الأخلاقية على مدار العامين الماضيين فهي أشهر من أن نعيدها هنا، والشاهد أن هذا السلوك "الاستحلالي" للموقف ونقيضه، يضعف الثقة في القرار الرسمي، ويرسخ مشاعر الخوف والتخوين والإحساس بالغدر في أي كلام أو موقف أو تعهد أو التزام ولو أقسموا عليه بأغلظ الأيمان، وهذا أحد محاور أزمة مصر الآن وأزمة علاقة الرئاسة والجماعة بالقوى السياسية الأخرى، لا أحد يثق في الكلام أو الوعود أو الالتزامات، والكل يوقن أنها "زبدة" ليل، ستسيل مع شمس اليوم التالي مباشرة،.. لا أعرف كيف يتم تدارك هذا الخلل لأنه ترسخ الآن بالفعل في وعي القوى الوطنية وتصورها لسلوك الجماعة والرئاسة، ولكني أعتقد أنه حجر عثرة كبير للتوافق الوطني وبناء الثقة ويحتاج إلى علاج جاد وحقيقي وعاجل. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.