في مقدمة كتابه "أباطيل واسمار" ، لفت العلامة محمود شاكر رحمه الله إلى أمرين بالغي الأهمية، الأول إشارته إلى أن ميدان "الثقافة" و "الأدب" والفكر" هو اخطر ميادين ما أسماه ب "الحرب الخسيسة الدائرة على أرضنا من مشرق الغرب إلى مغربها " يقصد الاتجاهات الفكرية العربية الرامية إلي أوربة الثقافة والمجتمع العربيين ولقد عزا شاكر قناعاته بشأن هذا الأمر إلى أن معارك الثقافة والأدب والفكر ، متراحبة لا تحد بحدود ، ولأن أكثرها يأتي موقتا توقيتا دقيقا : إما قبيل حركات النهضة والأحياء ، وإما معها ، وإما في أعقابها ، ولأن هذه "المعارك" ليست في حقيقتها "أدبية" أو "ثقافية" أو "فكرية" ، بل هي معارك "سياسية" ، تتخذ الثقافة والأدب والفكر سلاحا ناسفا لقوى متجمعة ، أو لقوى هي في طريقها إلى التجمع أما الأمر الثاني فهو أن دعاة التغريب أو علمنة المجتمع الإسلامي ، " ليسوا سواء" فهما فئتان : " بعض هؤلاء الرجال يأتون ما يأتون عن علم، وبعضهم قد أخذ من غفلته ، فهو ماض فى طريقه على غير بينة" لقد آثرت أن استهل مقالي بهذه الإشارات التي استعرتها من مقدمة "أباطيل وأسمار" لعدة أسباب من بينها : أن محمود شاكر كتب هذا الكلام في مطلع عام 1972، وكان ذلك في حينه يعد وجهة نظر جديدة ،إذ لم يدرك الناس آنذاك أن المعارك الفكرية والثقافية، هي في واقع الحال مواجهات لها طموحاتها السياسية، صحيح أن ثمة مشاريع ثقافية برزت في التاريخ المصري الحديث كانت ميولها السياسية من الوضوح والفجاجة ما جعل خططها في خداع الرأي العام والتحايل عليه مسألة بالغة الصعوبة فعندما صدر العدد الأول من جريدة المقطم في 14/2/1889 برعاية فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس، كانت الغاية المعلنة منها وكما جاءت على لسان فارس نمر" لتوفير المال للإنفاق على مطبعة المقتطف .. وتثمير رأس المال الذي أنفق عليها".. كان الهدف المعلن إذن تجاريا ربحيا ، بل أن صروف افصح عن انه عارض فكرة إصدار المقطم في أول الأمر " تخوفا من عواقب الدخول في مأزق السياسة " . بيد أنه بمضي الوقت أفصحت الجريدة عن وظيفتها السياسية وتحولها إلى منبر إعلامي ناطق بلسان حال الاحتلال البريطاني لمصر ، وبلغ بها الأمر أن تنشر للشاعر ولي الدين يكن قصيدة مهداة إلى الملك "إدوارد السابع" ، ملك بريطانيا العظمى و إمبراطور الهند يقول فيها : فروق ومن فيها عليك يسلم ... ومصر ومن فيها بتاجك يقسم لك المنعة الدنيا التي لو سمى لها ... سواك انثنى عن نيلها وهو مرغم وعند وفاة هذا الملك الذي "تقسم مصر بمن فيها بتاجه" كما زعم يكن ينعاه الأخير بقصيدة يبلغه فيها حزن النيل والأهرام وبكاءهما عليه : وداعا أيها الملك الجليل ... دنا سفر ومهدت السبيل ستحملك النجائب نحو ملك ... كهذا الملك لكن لا يزول وعرش ليس ترقاه المنايا ... وتاج فوق رأسك لا يميل بكى(التايمز) صاحبه المفدى ... فجاوبه هنا هرم و نيل هذا المنحى لم يكن بوسعه لصدامه المباشر و الواضح مع مشاعر الأمة أن يكتسب تعاطفا شعبيا ، وإنما صادف صدا وعزوفا من الرأي العام المصري ، وقاطع القراء الجريدة ، ورد المشتركون أعدادها ، فاضطرت وزارتا الحربية والداخلية إلى دفع مبلغ كبير من المال للمقطم واستخدم البوليس في توزيعها ، وردد وكلاءها أن من لم يشترك فيها و أعادها دون قراءة ناله ضرر في معاشه وربما تعطلت مصالحه في الحكومة أو صودرت أملاكه وللحديث بقية إن شاء الله تعالى [email protected]