حين يتحدث المتحاورون عن البرادعي، وعن توجهاته وسياساته، وعما يريد من مصر ولمصر، يجب أن يضعوا في إعتبارهم حقائق لا تقبل التأويل أو التبديل. تلك الحقائق، وما تدل عليه، فيها ما هو للرجل وفيها ما هو عليه. ومن ثمّ يجب أن تؤخذ كلها في الحسبان. كذلك يجب أن تكون حسابات المؤيدين والمعارضين للرجل على وعيّ بمفهوم توازن المصالح والمفاسد والمبدأ الشرعيّ الأصوليّ في " تحمّل أدنى المفسدتين لتجنب أعلاهما". الرجل قد عاش جلّ سنيّ حياته العملية في أحضان الحضارة الغربيّة، بل وفي أعلى مراتبها، يلتقي القادة والسياسيين، ويراعي المصالح العالمية وعلى رأسها المصالح الغربية، وهو لا يرى الدين، كما يراه "المسلمون الإسلاميون"، منهجاً للحياة، بل يراه حرية شخصية يجب أن يتمتع بها الفرد دون أن يكون له إنعكاساته على مؤسسات الدولة وقوانينها. وللحق، فإنه في هذا لا يبعد عما دعا اليه "الإصلاحيون" في مطلع القرن الماضى، وعلى رأسهم سعد زغلول الملقب بزعيم الأمة، حين عبّر عن مذهبه في كلمته المأثورة "الدين لله والوطن للجميع". فأمر البرادعيّ ومنهجه ليس غريباً على الساحة السياسية المصرية، حين كانت للسياسة ساحة يتبارى فيها السياسيون، كما يعتقد البعض. والبرادعيّ، في هذا الصدد، مخلص لمنهجه، محبّ لوطنه، حسب ما يراه حسناً، وهو، كما كان زغلول من قبل، ليس بفاسد ولا مبتغٍ للمال وللمجد والشهرة. فالبرادعيّ يرى ما رآه طه حسين من قبل حيث ذكر في كتابه المسموم "مستقبل الثقافة في مصر" أنه إن أردنا أن نتقبل الثقافة الغربية فعلينا أن نأخذها كلها، حلوها ومرها، أي علينا أن نتبنى مناهجها ما يوافق الإسلام منها وما يخالفه. ولكن الأمر أن البرادعيّ لا يقدّر أنّه في إحصاءٍ أجرته حديثا وكالة عالمية، قد إختار 77% من المصريين ضرورة تطبيق أحكام الشريعة. فالشعب المصريّ، أو أكثريته، لا تزال على دين الإسلام، ترى شرع الله قانوناً للأرض، ولا تفصل بين الدين والدنيا، كما يفعل العلمانيون والإصلاحيون والليبراليون، سَمِّهم كما شئت. وحلم البرادعيّ أن يرى المواطن المصري كالسويديّ له جوانبه الصحيحة والفاسدة، على حسب موضوع التشابه والإفتراق. فحساباته التي تقوم عليها مبادئه، تتجاوب مع الأقلية التي إنحرفت عن النهج الإسلاميّ الذي تتقبله الغالبية، مما يجعله زعيماً للأقلية لا للأغلبية وقد غاب عنه وعن أمثاله من طالبي الإصلاح، أن الصلاح الحقيقيّ لا ولن يتحقق من غير الوازع الإسلاميّ يهديه، والشرع الإسلاميّ يحميه، وأنّ المناهج الأرضية الديموقراطية الإشتراكية تجد دائما من يخترق حصونها وينخر في مؤسساتها، والمسألة مسألة وقت لا غير. لكن، وبحسابات أخرى، وبإعتماد المبدأ الشرعيّ " تحمّل أدنى المفسدتين لتجنب أعلاهما"، فإن البرادعيّ ولا شك أفضل مرات من الوضع الذي استقرت عليه الحال في مصرنا في العقود الأخيرة، ومن الوضع المراد بها في سيناريو التوريث. فالتوريث هو المفسدة الكبرى التي يجب أن تتجنبها مصر، والبرادعيّ ليس نصيراً للفساد ولا للفاسدين، ودعوته للحرية والديموقراطية تفتح باباً ولا شك تنفذ منه الأغلبية، حيث لا أبواب أخرى مُفتّحة لهم في الوضع الحاليّ. الديموقراطية، وإن لم يكن لها صلة بالإسلام، إلا إنها أوسعُ بابٍ لحكم الأغلبية، وهو حكم الإسلام في حالتنا هذه. والدخول في ظل عباءة الديموقراطية ليس بدعاً فقد إحتمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقومه في شِعب أبي طالب، وهم على غير الإسلام. والرجوع إلى الإسلام في ظلّ الديموقراطية المدنية أقرب للتحقيق منه في ظلّ الديكتاتورية الملكية العسكرية البوليسية.. التي لا يعلم صفتها إلا الله، والتي نعيشها في زمننا هذا. الأخطر في حديث البرادعيّ هو ما ذكره عن حذف المادة الثانية من الدستور، والتي تنصّ على أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع. فإن في حذفها تجريم دستوريّ للأنشطة الإسلامية، وإستعداء المؤسسات العسكرية والمدنية عليها، وهو الخطر الذي قد يشوب السيناريو الذي ذكرناه آنفاً. الأمر إذن يحتاج من المؤيدين والمعارضين للتفكر والتدبر قبل التأييد أو الرفض. والله وحده هو الهادى للصواب.