مر يوم 13 شباط /فبراير كأي يوم آخر، بعيداً عن الأقلام والإعلام والأفلام الوثائقية التي ما زالت تقص علينا حكايات الحرب العالمية الأولى والثانية وفواجع حصار ستالينغراد ومأساة غرق السفينة تايتانيك. مر هذا اليوم في التقويم العربي والعراقي والإسلامي والإنساني بهذه الطريقة، وكان حقيقاً أن يمر هكذا. في مثل هذا اليوم من عام 1991 وخلال حرب تدمير العراق التي شنتها أمريكا تحت لافتة تحرير الكويت، قامت مقاتلات أمريكية بإلقاء قنبلتين زنة نصف مليون رطل على ملجأ العامرية الكائن في بغداد، الذي أوت إليه 100 عائلة بمجموع 400 شخص غالبيتهم من النساء والأطفال، فأحالته كتلة من النار والرماد والجثث المتفحمة. زعمت أمريكا أن الملجأ كان مركز قيادة للجيش العراقي، لكن الصحفيين الذين حضروا إلى المكان نفوا وجود أية دلالات على صفة عسكرية. الأسطر التالية كتبت في عام 1996، وأم غيداء سيدة عراقية فقدت طفلتها في الحادث، وأقسمت أن تعيش بقية عمرها في الملجأ، وتحكي للعالم من داخل جدرانه المتفحمة قصة الجريمة ومأساة أم فقدت قرة عينها. في 13 شباط 1991 غربت الشمس غروبها الأخير في حياة أم غيداء، أما بالنسبة لمن سيحكم بغداد بعد 12 عاماً، فقد كان يوماً ظهر فيه قرص الشمس لأول مرة، ممهداً لأيام مشمسة ستأتي فيما بعد. (...جراح في الذاكرة الجمعية كهذه لا ينبغي أن تترك لتندمل، أو تجف صحفها، فاندمالها اندمال لوازع الثأر ووقف للنبض في العروق، وقليل من الشعوب من يحسن هذا الفن، واليهود أمهرهم، الذين أمدوا شخصية المظلمة بشريان الحياة أحقاباً مديدة، فكانت لهم آيديولوجية، حشدوا بها العالم وأصبحوا أكثر نصيرا، وأقاموا دولتهم على أرض فلسطين. [الشيعة بقيادة الفرس تفوقوا بهذا الفن، حشدوا الغرب، وأتوا بأمريكا وأقاموا دولة لهم على أرض العراق. هذا استدراك من وحي سبعة أعوام من الاحتلال الأمريكي الإيراني للعراق]. الملجأ المتفحم الذي اختارته أم غيداء مقاماً لا زال على حاله يوم انتشلت منه أشلاء الجثث قبل عشرة أعوام، وقد جعل مزاراً يؤمّه ضيوف العاصمة العراقية، وربما صنعت له مجسمات تذكارية يصطحبها الزائر إلى بلاده لتذكره بالجريمة. الخشية هي أن يصبح "المزار"، ومعه أم غيداء، وأخواتها من الأرامل والثكالى صفحة إعلامية تطويها اتفاقيات رفع الحصار والتصالح. هل هذه خشية في غير موضعها؟ الدول التي تصالحت مع إسرائيل يتفادى إعلامها آيات بني إسرائيل في القرآن الكريم، وحذفت مغازي الرسول صلى الله عليه سلم مع اليهود من مناهج التعليم، أفلا يكون حذف مغازينا مع الأمريكان من مناهج التعليم، وطمس بصماتهم، وآثار أقدامهم، وكل مَعْلم يرشد إلى جرائمهم، في يوم نصطلح فيه معهم من باب أولى؟ الاستخفاف الأمريكي ليس قدر الشعوب الذي لا يرد بقدر آخر، وإذا كانت ثمة أمة يلتمس لها عذر التسليم بهذا القدر فهي اليابان؛ الأمة التي قبلت سلاماً مجحفاً، ودستوراً كتبه المحتل، وكفرت بإلهها (الامبراطور) وأنزلته إلى مصاف البشر، لكنها تجاهلت بعناد، وهي الشريك الاقتصادي الأول لأمريكا، ضغوط أمريكا ومضت في إقامة متحف وطني لضحايا القصف الذري الأمريكي لمدنها، وترفض وقف العناية المركزة، رغم التكاليف الباهظة، لثلاثة من ضحايا الإشعاع الذري يرقدون في مستشفياتها منذ 49 عاماً في شلل تام، والغاية هي أن يرى الأبناء ما فعلته أمريكا بالآباء. هل من تناقض بين فكرة المتحف وبين العلاقات الاقتصادية؟ أو بينه وبين السلم العالمي؟ أو مبدأ عدم نشر الكراهية؟ اليابان تجيب على هذا السؤال، وجوابها هو: لاءٌ كبيرة، بل كانت هذه الصروح فرصة أجيال أمريكا الناشئة الوحيدة للوقوف على ما فعله قادتهم مع البشرية، وانبثقت من أوساط هذه الأجيال مؤسسات داخل أمريكا تحذر من مافيات سياسية وعقائدية تخطف البلاد وتضع أمن ومصلحة الناس في ذيل الأولويات. حسن توظيف الأزمات يديم النبض في عروق الأمم، وقد بقيت الشخصية اليابانية والسوق اليابانية عصية على السلع الأمريكية عقوداً من الزمن تلت الحرب، ولم يكن للأمر علاقة بنظريات الاقتصاد وإنما بالعناد، وكانت تلك العقود مساحة زمنية نهض فيها الاقتصاد الياباني ودخل العولمة فيما بعد كشريك لا كتابع. ولا زال الإنكليز بعد نصف قرن على الحرب العالمية الثانية وقيام الوحدة الأوربية، لا يدعون فرصة إلا وصلوا بها ناشئة المدارس بصور الدمار والقتل الجماعي الذي أحدثه النازيون، ويشرحون لهم أسباب الحرب من وجهة نظر قومية. ويوضع الصغار وجهاً لوجه مع الناجين من الحرب ويصغون إلى حكايات حقيقية، ويتفحصون في زيارات تنظمها المدارس مساقط القنابل الألمانية التي تنتصب بجانبها لافتة توجز بالأرقام ما حدث، فيلتحق النشء الجديد بالذاكرة الجماعية للمجتمع. بريطانيا العضو في الاتحاد الأوربي لم تمحُ من ذاكرتها مغامرات نابليون ومعركة واترلو، وحينما وافقت على حفر نفق القنال الذي يربطها بفرنسا، ضمّنت مسودة المشروع العملاق إشارة إلى الحاجة إلى وسيلة هندسية لسد النفق وعزل الجزيرة البريطانية في حالة نشوب حرب. أي حرب يتحدث عنها القوم وقد رفعت الحدود وتوحدت العملة؟ الأمم لا تنسى في غمرة الرخاء أن حقب السلام بين الخصوم هي استراحة المحارب، والمحارب لا يسعه نسيان الماضي، ظالماً كان أو مظلوماً، وهذه الحقائق لا يقصد أن تكون ثقافة اليوم والشارع والسوق أو إفشاء الكراهية، وإنما تودع في حيز في الذاكرة، وتستدعى في أوقات الأزمات بعناوين مقتضبة على واجهات الصحف ونشرات المذياع، فيكون الذهن جاهزاً لمعركة قديمة جديدة، وتتم التعبئة في أيام..). القوات الأمريكية في بلداننا قوات احتلال جاءت من دون دعوة، وهي في اليابان قوات احتلال أملتها معاهدة استسلام صادقت عليها الدولة، ومع ذلك فقواعدها هناك مستأجرة وعندنا مضافة، وفي اليابان مطلب شعبي بجلاء القوات الأمريكية أصبح فقرة على جدول المباحثات اليابانيةالأمريكية، ومثل اليابان فعلت شعوب الفلبين وكوريا وتايلاند. فرق كيف تقدر هذه الشعوب نوع العلاقة مع أمريكا وكيف نقدرها نحن. العامرية وطرابلس والخرطوم وحفلات الأعراس في أفغانستان وباقي مساقط صاروخ الكروز الأمريكي فواجع يراد منا أن نطمسها، ونضعها في الأرشيف، تحت باب "أخطاء مؤسفة لا تفسد للود قضية"، نمضي بعدها في صداقة نكدية كالتي وصفها الشاعر العربي: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد إذا كانت الاحتجاجات والتظاهرات من المباحات القليلة المتبقية في شريعة العولمة، فهل أقل من صفحة تُدق على جدران التاريخ تحكي لأجيال الغد قصة الآباء بالأمس مع الظلم الأمريكي؟ [email protected] معهد المشرق العربي