لم يكن يخطر علي بال غالبية من ناضلوا وجاهدوا وجادوا بكل ما هو غال ونفيس ان تصل الاوضاع علي الساحة العربية الي ما وصلت اليه من مشاهد الذل والهوان علي طول امتداد الجغرافيا والديموغرافيا العربية من العراق شرقا الي مراكش وموريتانيا غربا ومن الشمال حيث الوجود السوري والاجواء الموتورة في لبنان وفلسطين الي الصومال فالسودان جنوبا. فالمشهد العربي الكلي، لسان حاله يقول: وامصيبتاه .. وامصيبتاه . فمنذ ان حصلت العديد من الاقطار العربية علي استقلالها من المستعمر الاجنبيّ والخلافات الداخلية يوما عن يوم تزداد اشتعالا واستعارا لتهدد السلم الاهلي، وليدفع بالتالي المواطن العربي جراء غياب فرص الوفاق والاتفاق، ونتيجة للصراعات السياسية، من رصيد كرامته وامنه وماله ودمه وعرضه الكثير الكثير. لقد اضحت مظاهر الفلتان الامني والخوف والقلق من الحاضر والمستقبل من سمات الواقع في عالمنا العربي بل شغلنا الشاغل، هذا في الوقت الذي تشق فيه الشعوب والامم الاخري طريقها نموا وتطورا، ازدهارا وتقدما. الصراعات محتدمة هنا وهناك دون التبصر بما قد تؤول اليه مجريات الامور من خسران لا يخدم الا المتربصين بهذه الامة، فما تكاد ان تكون هنالك حركة نهوض من نوع او آخر او حركة صمود الا وتهب علينا رياح الانقضاض والعبث من حيث لا نحتسب، وما الهدف الا لتغييب دورنا الثقافي والحضاري البناء الذي عرفه التاريخ ذات يوم ليس في السياسة والاجتماع والاقتصاد فحسب، بل في مختلف المجالات والميادين الادبية منها والعلمية، الانسانية والطبيعية. ان الوطن العربي اليوم وبحكم واقعه السياسي المرير عرضة للفشل المريع، فالدولة الواحدة فيه عرضة لان تصير في عشية او ضحاها دويلات، والتي ما ان تصبح بالامر الواقع عندئذ سوف ترتكس بنا الامور الي حقبة تاريخية لا هم فيها للعربي الا النساء والكساء، وتناول الطعام والشراب، والعراك والاحتراب ولو بسبب ناقة جرباء . في العراق، بلغت الدموية ذروتها، وتجاوزت معدلات التهجير والنزوح الداخلية في هذا البلد حدا غير مسبوق، وبات حلم الدولة الوطنية الموحدة التي تجمع شتي الاطياف السياسية فيه مجرد ترف سياسي واعلامي، فالواقع علي الارض هش الي ابعد الحدود، سرعان ما يهوي باهله، وسرعان ما تشتعل الامور الي نقطة قد لا تعرف اهلها خط الرجعة. هذا ناهيك عن غفلة العرب وتجاهلهم لما يجري علي ارض الرافدين من تصفيات حساب اقليمية وعالمية صار الحليم فيها حيرانا. عدد القتلي في هذا البلد وفي فترة زمنية قياسية يقارب المليون قتيلا، والجرحي لا عاد لهم ولا محصي. اما عمن تركوا العراق طوعا وقسرا الي الخارج نجاة بجلودهم وجلود فلذات اكبادهم، فالعدد قد تجاوز الخمسة ملايين عراقي، غالبيتهم يعيشون في ظروف انسانية ماساوية لا تسر عدوا ولا صديقا!! وفي لبنان، وصلت الامور باهله لولا رحمة ربك الي حد الاقتتال الطائفي من جديد، وصار البلد منقسما علي نفسه الي مسلمين ومسلمين، مسيحيين ومسيحيين؛ سنة وشيعة، مارون وارمن واورثوذوكس، وما زالت الاوضاع في هذا البلد العربي مشحونة قابلة للانفجار في اية لحظة، ولأتفه الاسباب. هذا ناهيك عن واقع الفلسطينيين ومخيماتهم وما يحدث لهم فيها، وما قد يفرخ ذلك مما لا تحسب عقباه من احداث ومجرات احداث، والتي كان آخرها احداث مخيم نهر البارد، وعين الحلوة وغيرهما. فالموقف هناك جد خطير قد يصل الي حد عدم القدرة علي السيطرة، وبالتالي حدوث الانفجار غير المتوقع لتصير الامور في وضع لا يمكن التكهن ابدا بما سيفضي اليه من عواقب ونتائج قد تكون وخيمة ليس علي لبنان فحسب بل علي بلاد الشام برمتها. وفي فلسطين، وعلي وجه التحديد في غزة والضفة، كان ما كان من مشاهد الغوغاء والانفلات الامني، وما زال. وكان ما كان من صراع الصلاحيات وما زال. فعدا عن غياب الوحدة الحقيقية بين الفلسطينيين لسبب او لآخر ما زالت الاجواء مشحونة بين اكبر فصيلين عرفتهما القضية الفلسطينية؛ فتح وحماس. وما زالت القطيعة مجسدة بين الاشقاء، وكل طرف يتهم الآخر ويعمل ما بوسعه لادانته سرا وجهارا، ليلا ونهارا. هذا في الوقت الذي يحارب الفلسطيني في لقمة عيشه، ويبتز سياسيا يوما عن يوم للتنازل عن هويته العروبية والاسلامية وعن قضيته العادلة لصالح من هم غرباء علي المنطقة، ممن جاءوا من هنا ومن هناك لاغراض واعتبارات سياسية واستعمارية ليس الا. فبعد ان نادي العالم (الحر!!) بالانتخابات الحرة والديموقراطية في القدسالشرقية وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعد ان شهد العالم لما تمخض عن تلك الانتخابات من نتائج شفافة ونزيهة، كان بان ضرب الحصار علي الفلسطينيين ليس من الاسرائيليين والامريكان فحسب، بل من العرب ومن الاوروبيين، ومن الاممالمتحدة نفسها، وها هو الحال ما زال مزريا يهدد بانفجار قد يكون مزلزلا لا يخدم لا الفلسطينيين ولا العرب ولا غيرهم. وفي السودان وبعد ان شغل وارهق طويلا بقضية الجنوب، فتحت عليه الحرب من خاصرته الغربية، من اقليم دارفور. فالازمة عدا عن كونها سياسية وانسانية تتهدد حياة مئات الآلاف ممن هم بشر نري الموقف العربي السياسي مخزيا وكانه مسلوب الارادة لا مبادرات ولا مناورات لحل الازمة بطريقة تقطع الطريق علي من لا يريدون للسودان ولا لأمته الخير. وما ان تشتد ازمة عربية هنا او هناك الا والدعوة للتدخل الاممي فوق اي اعتبار، وكأن الجامعة العربية ومن ينتمون اليها لا دخل لهم ولا جيوش عندهم. والمؤسف هو انه لم يسبق وان تدخلت الاممالمتحدة لتنصف العرب. فالتاريخ المعاصر يشهد علي ذلك، وما زالت القرارات الاممية الخاصة بالعرب وقضاياهم العادلة معلقة وكانها لم تصدر!! بالطبع، لا يمكننا تجاهل الابعاد التاريخية وكل العوامل الداخلية والخارجية للازمات العربية؛ حيث ضعف وهشاشة البناء الوطني العربيّ، والذي هو في احسن صوره عبارة عن وهم كبير يحسبه الظمآن ماء. هذا ناهيك عن تزعزع ثقافة العيش الكريم وغياب ثقافة التعايش بين الطوائف والاعراق، وبين الالوان والاقاليم والمناطق. ان الفشل العربي المركب للخروج من وهم البناء الوطنيّ، وفرض ثقافة التعايش علي كل من يعيشون في نطاق الحدود العربية الكلية منها والاقليمية الجزئية سواء قبل الاستقلال او بعده ما زال يقف حجر عثرة في وجه كل تقدم سلميّ وثقافي وحضاري، وما زال يعمّق يوما عن يوم ثقافة عدم الولاء للدولة وعدم الانتماء للوطن، وبالتالي تفاقم حالة الفصام النكد، وحالة الانهزام النفسي المرير الذي يدفع بأهله الي اشكال وصور مختلفة، تارة علي شكل انتحار سياسي جماعي، وتارة اخري علي شكل اقتتال داخلي ومهاترات ومزاودات لا تخدم في نهاية المطاف لا وطن ولا مواطن. من هنا وفي ظل هكذا اجواء ظهرت وترعرعت الثقافات الذرائعية السلبية الهدامة بين الافراد والاسر والجماعات، وصار النظام العربي سياسيا كان ام اجتماعيا ام اقتصاديا مهددا ولا خيار امامه لاثبات وجوده ولضمان بقائه واستمراريته الا باللجوء الي التسلط والقمع واتباع سياسات تكميم الافواه وسن القوانين والتشريعات التعسفية والجائرة الحامية للنظام نفسه، لا لحماية الوطن والمواطن ومقدرات الامة. وهو واقع ما استمر سيبقي مؤشر الانحطاط والانحدار السياسي في عالمنا العربي مستمرا الي ان تصل بنا الامور درجة الصفر. اذا ارادت الولاياتالمتحدةالامريكية ان تقربنا من اسرائيل ولو علي حساب الحقوق والكرامة ترانا مستعدين، واذا ارادت ان تبعدنا عن روسيا واوروبا مثلا او غيرها ترانا مستعدين. اذا اريد للعرب ان يستعدوا للمساهمة في حرب جيرانهم كما حدث في الحرب العراقية الايرانية (1980 1988م) ايضا تراهم مستعدين، وعندما يطلب منهم القيام بنحر ظهورهم كما فعل العراق مع شقيقته الكويت، وكما طلب من البعض ان يفعلوا مع العراق سواء في حرب الخليج الثانية (1991م)، او حرب اليمن (1994م) حيث كان الهدف تصفية الوجود الشيوعي المقلق خدمة لامريكا لا خدمة للعروبة والاسلام كما روج البعض، ايضا تراهم مستعدين، وهو الحال عينه عندما شن الثالوث الغربيّ عدوانه علي العراق في العام 2003م، والذي قادته امريكا وبريطانيا واسبانيا بترتيب مسبق مع العرب في المنطقة، وباركته الاممالمتحدة بصورة غير معلنة. وها هو الحال علي ما تركته اليد الامريكية، فما زال العرب مستعدين لخوض حرب ضروس مع امريكا بل وحتي مع اسرائيل وجنبا الي جنب ضد ايران، والتي لا ذنب لها الا انها تريد البقاء بعيدا عن كل هيمنة اجنبية لا تخدم مصالحها التنموية والقومية. ولربما غدا نخوض حربا بالوكالة ضد تركيا، وضد روسيا والهند والصين وكل من قد يقول لامريكا ولمن يسبحون في فلكها ويسبحون بحمدها لا والف لا. غريب عجيب هو الحال السياسي العربي، والذرائعية العربية تنص وبصوت عال ومرتفع علي المصالح الوطنية والقومية للامة العربية، ويا ليت من يقولون بهذا يصدّقون انفسهم قبل ان يطلبوا من راع ٍعربيّ هنا او هناك ان يصدقهم. العرب ومنذ قرون وعقود خلت لم يشهد لهم بالنجاح في حلحلة ازماتهم الداخلية والخارجية، فما ان يشرعوا بالتشاور لحل ازمة ما اذا باخري تنفجر هناك، ليتركوا الاولي وينشغلوا بالاخري، وهكذا دواليك الي ان وصلت بنا الامور حد استجداء من لم ولن ينصفونا ذات يوم لا من بعيد ولا من قريب. تارة نقول امريكا راعية السلام، ونروج لها علي انها حقا كذلك. وتارة اخري ترانا نعظم الشرعية الدولية والرباعية وقراراتها، وما الي غير ذلك، وكأن جهود رعاة السلام قد اثمرت سلاما بحق وحقيقة، بل وكأن الاممالمتحدة واطراف الرباعية قد تابعت تلك القرارات المتعلقة بحقنا والتي مضي علي بعضها قرابة ال 60 عاما. لقد يئس العرب من حالهم هذا فصار بعضهم بدلا من التجمع والتمركز حول محور عربي يحسب له الف حساب، يتراكض شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، هذا في الوقت الذي تعرف فيه الشعوب والامم كيف تؤكد ذاتها ووجودها، وكيف تنتزع حقوقها انتزاعا لا استجداء. الصينيون والهنود اليوم يفرضون انفسهم علي الساحة الدولية كخيارات مستقبلية مستقلة بحق وحقيقة، كيف لا ومعظم التقارير الصادرة عن المؤسسات والمنظمات الدولية تقول بان معدلات النمو الاقتصادي ومؤشرات التنمية والتطور هي علي اشدها في الهند والصين، بل الاعلي نسبة في العالم؟! الصينيون والهنود لمن لا يعرفهم جيدا اصحاب ثقافات واعراق متباينة، ولكنهم صاغوا وحدتهم التاريخية وحافظوا عليها بالدم والعمل الدؤوب والمتواصل القائم علي تعزيز مباديء الانتماء في النفوس، والاستعداد التام للذود عن حمي الوطن مهما كلف الثمن. لذا تراهم يحسب لهم حساب المستقبل، وما التحركات الامريكية وغيرها الا لمحاصرة واحتواء المد الاقتصادي الصيني، والهندي الواعد؛ وذلك ضمن سلسلة من السياسات الاستراتيجية الامريكية المرحلية والبعيدة المدي، وعلي قاعدة: عدو عدوي صديقي، وصديق عدوي عدوي، وعدو صديقي عدوي، وصديق صديقي، صديقي . اذن، علي العرب ومن خلال جامعتهم العربية العمل الجاد للخروج مما هم فيه من حالة العجز المطبق، فهم ما لم يفعلوا سيبقي حالهم علي ما هو عليه الي ان يتم الله امرا كان مفعولا. والعمل المطلوب عربيا، ما لم يستند الي فهم الواقع كما هو لا كما نتصوره ونراه، وكما تحدده الاستنتاجات والاستقراءات العقلية العلمية لا التخمينات والتخريصات والاوهام والخرافات لا يمكن له ابدا ان يوفق في ايجاد الحلول المطلوبة لمختلف مشاكلنا السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية. كفانا استهتارا بما يتمخض عن مراكز ابحاثنا ومعاهدنا وجامعاتنا من نتائج واستنتاجات واستقراءات وكأنها لا تمت الي واقعنا بصلة، وفي المقابل تبني وتعميم استنتاجات واستقراءات ابحاث ودراسات جاهزة ومستوردة من هذا البلد او ذاك. فهذا النهج العقيم لا يخدمنا ابدا ما بقينا وما بقيت الحياة. من هنا ندعو الي اعادة النظر في المناهج المستوردة، خاصة ما يتعلق منها بالانسانيات والاجتماعيات، ومن ثم صياغة مناهجنا كما يليق بنا وبتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. وندعو الي بناء وتشييد المزيد من المؤسسات والمراكز البحثية لتقييم وتقويم (for evaluation and aement) الوقائع ومجرياتها علي الارض، بل تقييم وتقويم الافتراضية منها. والاهم هو تبني نتائجها والاستفادة من استنتاجاتها واستقراءاتها، لا المضي قدما وكان الامر عن سابق اصرار وترصد في العمل علي تكديسها علي الرفوف في المكتبات العامة والخاصة. كل هذا وغيره علينا اخذه بعين الاعتبار من اجل صياغة استراتيجية عربية جديدة، ركيزتها الايمان المطلق بالله، والعلم والعمل المتبصر والمتعمق في الواقع والمستند لثوابته ومتغيراته، لا العلم والعمل المستهلك والمستنفد الذي تلقي لنا به الدول المتقدمة لنلهو به الي حين التيقن بانه مجرد العوبة واكذوبة الهدف منها ابقاءنا نغرد خارج السرب الحضاريّ، وفي المؤخرة، ليس الا. وخلاصة القول، وكما قالها الاديب الانكليزي الكبير ذات يوم، وليام شكسبير: كن او لا تكون . وعلينا كعرب ان نوقنها جيدا، فاما ان نكون واما ان لا نكون. فالعصر يا عرب عصر الوجود واثبات الهوية، والنهوض، لا عصر الغفلة واللهو والسبات.