1- درة التاج وكِنانة الله في أرضه مصر أذَِن لها ربها – عز وجل- بميلاد جديد؛ لتتطهر من كافة أدرانها على أثر ثورتها المجيدة. نعم مصر تتطهر، وحقَّ لها، وحقَّ عليها أن تتطهر مما حاق بها من فساد وإفساد، وانحراف وجور وظلم لشعبها الطيب. نعم يجب أن تتطهر من الفوضى والعشوائية، والسلبية والانتهازية، وعدم وضوح الرؤى، وتداخل الاختصاصات. مصر يجب أن تتخلص من ترسانة القوانين البالية المتضاربة التي فُصلت من قَبْل من أجل أسيادنا الذين كانوا وأضحوا اليوم في السجون، كما فُصِلت أيضاً مجاملةً وهوى لبعض الأسياد ممن يترنحون الآن ويوشكون على السقوط. 2- وإذا كان جيش مصر يحمي حدودها ضد أي مخاطر خارجية، فإن القضاء المستقل العادل يحمي مصر بأكملها بما فيها ومن فيها؛ ولذلك فإن إعادة ترتيب ومعالجة ملف السلطة القضائية بهيئاتها وأعضائها ومعاونيها وتشريعاتها بات أمراً في غاية الأهمية، بل في غاية الخطورة، وبخاصة بعد ولوج القضاء والقضاة في نهر السياسة المحرم بنص القانون، وبعد ظهورهم على شاشات الفضائيات وصفحات الصحف يتبنون علانية مواقف سياسية متعارضة، ما كان ينبغي لهم ابتداء حتى أن يحدثوا أنفسهم بها سراً. وقد تعاظمت أهمية إعادة إصلاح بناء مصر القضائي برمته بعد كل هذه الأزمات التي كان القضاء طرفاً أساسياً فيها سواء كان عن عَرَضٍ بموجب اختصاصه الأصيل، أو كان عن قصد بموجب التدخل غير المبرر ولن نقول التآمر. فالقضاة بحكم القانون كانوا بوابة دخول أعضاء مجلسي الشعب والشورى في دورتيه الماضيتين(2005 و2010) وقد ثارت الكثير من المطاعن والشبهات حول عضويات كثيرة فيهما، فإذا أضفنا إلى ذلك بعض مواقف المحكمة الدستورية العليا وبخاصة تصديها لمدى قانونية مجلس الشعب الأخير والمساهمة بحكمها في حله، في ظل وجود نظرية التآمر والتخوين من كل الأطراف، ناهيك عن السيل الذي لم يتوقف بعد -حتى اليوم- من القضايا والدعاوى الإدارية ضد قرارات رئيس الدولة، والسلطة التنفيذية، والجمعية التأسيسية، ومجلس الشورى حتى انتهى المطاف بتأجيل الانتخابات البرلمانية إلى أجل غير مسمى ما زال حتى الآن مجهولاً ومستتراً وراء ما سيصدر من أحكام قضائية، ثم كانت الخاتمة بإنذار موجه من نادي القضاة إلى مجلس الشورى يتضمن تنبيها وتحذيراً له من المضي قدما في نظر مشروع قانون السلطة القضائية. 3- والسؤال الذي يطرح نفسه لفك هذا الاشتباك والشروع مباشرة في تحريك عجلة إصلاح وترتيب البناء القضائي المصري مؤداه: من أين يجب أن تكون البداية الحقيقية الفاعلة لذلك؟ ومن يتعين عليه ابتداءً أن يأخذ بزمام المبادرة؟ هل رئيس الدولة، هل مجلس الشورى في ظل غياب مجلس النواب صاحب الاختصاص التشريعي الأصيل، أم مجلس القضاء الأعلى؟؟.. لا شك أن الأخير هو المعني شرعاً وقانوناً بالإدارة والإشراف على شئون القضاء والقضاة، والأقرب لذلك، أو هكذا يجب أن يكون، أوهكذا يجب أن تتعدل النصوص من أجل أن يكون على هذا النحو.
شرعاً؟ نعم شرعاً، فالقضاء الإسلامي الشامخ الذي يجب أن يكون نبراساً لقضائنا المعاصر مر عبر مراحل تطوره المختلفة ابتداءً من العهد النبوي، مروراً بعهد الراشدين، ثم الأمويين، ثم العباسيين حتى جاء زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد فاستحدث منصباً جديداً لم يكن موجوداً من قبل هو منصب قاضي القضاة في حاضرة الخلافة العباسية بغداد. ويرجع السبب في ظهور هذا المنصب القضائي الجديد إلى اتساع رقعة الدولة الإسلامية في أقصى امتداد لها عبر التاريخ الإسلامي، وانشغال الخليفة بالمهام الجسيمة في الخلافة، وشيوع مبدأ توزيع الأعمال والاختصاصات على عدد من الأشخاص، إذ احتاج الخليفة إلى من ينوب عنه في تسيير القضاء، ورعاية القضاة، فاستحدث الرشيد هذا المنصب لأول مرة في تاريخ القضاء الإسلامي، وأطلق الرشيد هذا اللقب الجديد على قاضي ببغداد الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، صاحب الإمام أبي حنيفة. ويعتبر منصب قاضي القضاة بمثابة المجلس الأعلى للقضاء في وقتنا المعاصر، الأمر الذي أكد الاستقلال التام للقضاء عن الخلفاء والولاة والأمراء، وانقطعت تبعية القضاة للولاة سياسياً وإدارياً، وصاروا يتبعون قاضي القضاة فقط، الذي تولى الإشراف الكامل على جميع أعمال القضاة في أمصار الخلافة، فصار المسئول الأول عن تعيين القضاة، وتحديد اختصاصاتهم، والإشراف عليهم، ومتابعة أعمالهم، وتفقد شؤونهم، والبحث في سيرتهم، وتفحص أقضيتهم، ومراقبة الأحكام القضائية التي تصدر عنهم، وعزل من يستحق العزل منهم. وقد صار أمر القضاء الإسلامي على هذا التقليد من تعيين قاضي للقضاة يقوم بهذا الدور الفاعل والذي يُعد على هذا النحو بمثابة الامتداد التاريخي والتأصيل الشرعي لمجلس قضاءنا المصري المعاصر، فأين مجلسنا الموقر من دوره الشرعي المناط به لإدارة القضاء المصري على وجهه الشرعي المطلوب على هذا النحو الدقيق.
4- أما قانوناً فوقاً لنص المواد 77 مكرر 1، 2، 3، 4، 5 من قانون السلطة القضائية المضافة بالقانون رقم 35 لسنة 1984 فقد أعيد مجلس القضاء الأعلى مهيمناً على شئون القضاة، وضامناً لاستقلالهم، كما عُدلت المادة 77 مكرر 4 بالقانون رقم 142 لسنة 2006م تحقيقاً لهذا الهدف، حيث يختص مجلس القضاء الأعلى بنظر كل ما يتعلق بتعيين، ونقل، وندب، وإعارة رجال القضاء، وكذلك سائر شئونهم على النحو المبين في قانون السلطة القضائية، كما نص المشرع على وجوب أخذ رأي المجلس في مشروعات القوانين المتعلقة بالقضاء والنيابة العامة. وإذن فشرعاً وقانوناً للمجلس الأعلى للقضاء المصري هذه الصفة الرئاسية العليا للإشراف الفني والإداري على كل ما يتعلق بقضاة، فهلا مارستم اختصاصكم الأصيل وأخذتم بزمام المبادرة وأدرتم دفة الأمور إصلاحاً وترتيباً.
5- وإذا كانت القيامة قد قامت وحقَّ لها أن تقوم بمجرد إعلان مجلس الشورى عن تلقيه مشروعاً لقانون السلطة القضائية من حزب الوسط سيشرع في تداوله، تمهيداً لدراسته ومناقشته، ومن ثم إصداره، وإذا كانت قد علت الكثير من الأصوات والأبواق تنادي وتنفخ معارِضة لولاية هذا المجلس القاصر غير المختص أصالةً من وجهة نظرهم؛ فإن الخطأ من البداية خطأ تقصيري ينسب لكم لأنكم لم تبادروا ابتداء باستعمال صلاحياتكم الشرعية والقانونية يوم حامت بعض الشبهات حول حمى قضاء مصر، ويوم تعالت الصرخات أن ثمة ظلم وتقصير واتهام منسوب لبعض رجالات القضاء والنيابة العامة... لكن لا مجيب...لا حركة لساكن.. لا حياة لمن تنادي.
لو أن المجلس الأعلى لقضاء مصر المحروسة بادر فوراً، ومارس صلاحياته، ورفع غطاء الحماية عمن جر ذيل الشبهات إلى ثوب قضاء مصر الأبيض، لما وصل الحال إلى ما وصل إليه من التجاذب والتناحر، بل والاستقواء بالخارج، ومحاولة افتعال وإيحاء التدويل للأمر على نحو لا يرضى عنه أي مصري ....
وهذا ما سنتناوله تفصيلاً بمشيئة الله تعالى في رسالتنا الثانية إليكم. فنرجو أن تتسع الصدور، وتَخْلُص النوايا، ويَصْدُق التوجه، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.