الإسلام يوجب على القضاة ألا يجعلوا لأحد عليهم سلطانا فى قضائهم، وألا يتأثروا بغير الحق والعدل، وأن يتجردوا من الهوى، وأن يسوّوا بين الناس جميعا عملا بقول الله عزل وجل: "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (النساء: من الآية 58).. "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى" (النحل: من الآية 9).. "وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ" (الشورى: من الآية 15).. "فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا" (الحجرات: من الآية 9).. "يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" (ص: من الآية 26).. "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (المائدة: من الآية 42). ويتضح من نصوص القرآن الكريم أن القضاء كان من مهمات الرؤساء والحكام، فقد مارسه الأنبياء بصفتهم خلفاء وملوكا، وجرى على هذه السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقضى بين الناس فى المظالم والخصومات والجرائم، وكذلك كان الخلفاء الراشدون، وكان المتفقهون من الخلفاء والحكام بعدهم يقضون، ولكن نظرا لاتساع رقع الدول وزيادة عدد السكان وكثرة مشاكلهم، وانشغال الحكام بتدبير وسائل العيش والتحصين والدفاع والأمن للناس، فقد انتهى الأمر إلى ترك القضاء إلى فئة تختص به تدرسه وتمارسه، ونصوص الشريعة الإسلامية قاطعة فى أن الذين يتولون أعمال القضاء يجب أن يكونوا مستقلين فى عملهم عن أى مؤثرات أو نوازع فلا سلطان لأحد عليهم إلا الله، ولا يخضعون فى قضائهم إلا لما يقضى به الحق والعدل. وبهذا المفهوم فإن القضاء يعتبر سلطة مستقلة مصدرها الأمة، ويعتبر القضاة بمجرد تعيينهم نوابا عن الأمة، وإن كان الإشراف على هذه السلطة من الحاكم أو رئيس الدولة بصفته ممثل الأمة والنائب الأول لها، فإن هذا الإشراف لا يتعدى تدبير الميزانيات والدرجات الوظيفية واحتياجات المعيشة والكتب والمراجع – وتجهيز المحاكم وقاعات التقاضى وحمايتهم وتنفيذ الأحكام. أى بمعنى تقديم الخدمات وتوفير الإمكانيات المادية والعينية، وتمكين القضاة من ممارسة مهامهم وتنفيذ أحكامهم. والقضاة يختلفون عن الموظفين التنفيذيين فى أنهم لا يمثلون الحاكم ولا ينوبون عنه فيما يباشرون من أعمالهم، ومركزهم منه هو نفسه مركزهم من المحكومين. فهم ينوبون عن الأمة فى الحكم فى المنازعات والخصومات والمظالم والجرائم فى حدود الشريعة الإسلامية سواء كانت هذه المنازعات والخصومات بين المحكومين أنفسهم أو بين الحاكمين والمحكومين، وسواء صدرت هذه الجرائم من الحكام أو المحكومين، وعلى هذا الأساس يعتبر القضاة سلطة مستقلة مصدرها الأمة ولا يملك الحاكم أو من يمثله بالتفويض عزلهم كما أنهم لا ينعزلون بموت الحاكم أو عزله. وإذا كان سلطان الحاكم مستمد من الأمة الذى منحته النيابة عنها والتى يمثلها، فإن سلطان القضاة يجب أن يستمد من المصدر نفسه لضمان الحيدة وحسن قيام الأطراف كلها على أمر الله وعدم الخروج عليه، وإذا كانت السوابق الإسلامية قد جرت على أن يقوم الحكام بتعيين القضاة إلا أن هذه السوابق لم يكن العمل بها متعلقا بالمصلحة العامة من بعد عهد الخلفاء الراشدين، فقد شاب الحكم فى البلاد الإسلامية الانحياز والتجاوز عن كثير من أصول التشريع والفقه، وتضافر فى هذا التجاوز بعض الفقهاء والقضاة الذين استعان بهم الحكام ليشرعوا إرادة الحكام ورغباتهم، تارة تحت تأثير المجاملة، وتارة تحت تأثير الخوف وتارة ثالثة تحت تأثير المال والمنصب والجاه. وقد انتهى هذا كله إلى أسوأ النهايات. فقد فسدت أداة الحكم فى الدول الإسلامية وتحولت عن غايتها التى رسمها الإسلام، وأصبحت مهمة الحكام أن يحكموا فى حدود الهوى والمنفعة بعد أن كان واجبهم الأول أن يحكموا فى حدود الإسلام ابتغاء مصلحة الجماعة وابتغاء وجه الله. لذا فإنه من باب سد الذرائع واجتناب الشبهات، وتأكيد أن الشعب هو مصدر السلطات، يتولى وكلاء الشعب فى المجالس الشعبية الرسمية (مجلسى الشعب والشورى) كل أربع أو خمس سنوات تسمية رئيس السلطة القضائية أى رئيس المجلس الأعلى للقضاء (قاضى القضاة) من بين أقدم المستشارين فى الهيئة القضائية السابقين أو الحاليين بموافقة أغلبية الوكلاء بما لا يقل عن 66% من عدد الأصوات. كما يتولى وكلاء الشعب إصدار قانون بإعادة قواعد تنظيم المجلس الأعلى للقضاء بناء على الصفة القضائية وليس الصفة الشخصية وبما يضمن تشكيله من بين أقدم المستشارين المشهود لهم بالنزاهة والذين لم يسبق انتدابهم فى أية جهة حكومية أو رئاسية من قبل ولم يسبق اتهامهم من الشعب بجرح فى العدالة، بالإضافة إلى ممثلين منتخبين عن المحاكم المختلفة والنيابة العمومية. ويحظر على رئيس الدولة التدخل فى أعمال القضاء أو إدارة السلطة القضائية فى أى مظهر أو مخبر سواء كان برئاسة المجلس الأعلى للقضاء أو تعيين وزير لشئون القضاء، أو تعيين القضاة أو نقلهم أو ترقيتهم أو اختيار بعضهم لشغل وظائف إدارية، أو تحديد دوائر معنية لنظر قضايا معينة. كما يحظر على رئيس الدولة التأثير على القضاة أو التأثير على الشهود أو رفض الأحكام أو قف تنفيذها إلا فى حدود ما أباحت له الشريعة من سلطات فى العفو عن جرائم وعقوبات التعزير. اختصاص المجلس الأعلى للقضاء يتولى المجلس الأعلى للقضاء بعد إعادة تشكيله تنفيذ كل شئون القضاء والقضاة وأعضاء النيابة من تعيين وعزل ونقل وترقى أعضاء الهيئة القضائية والنيابة العمومية، وبما فى ذلك اختيار رؤساء الهيئات القضائية والنائب العام من بين أقدم المستشارين. كما أنه السلطة الكاملة فى تقويم كل اعوجاج وعزل المخالفين وعقابهم طبقا للقانون إذا ما انطوت مخالفاتهم على جرائم فى حق الله أو حقوق الأفراد. ويدخل فى اختصاص المجلس تشكيل الدوائر المختلفة لجميع المحاكم بدرجاتها المتعددة المدنية والإدارية، وإدارة شئون القضاة وأعضاء النيابة العمومية وإعداد الميزانية العمومية السنوية لتيسير شئون أعضاء الهيئة القضائية ومعيشتهم. كما يتولى المجلس ذاته تنظيم المحكمة الدستورية وتعيين رؤسائها من بين أقدم المستشارين، حيث تختص بالنظر فى شرعية ومشروعية القوانين واللوائح وتفسير نصوصها فى حالة الخلاف فى التطبيق، والفصل فى تنازع الاختصاص بين جهات القضاء أو النزاع الذى يقوم بسبب تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين، على أن ينظم القانون الإجراءات التى تتبع أمامها. ويحظر على القضاة تشكيل محاكم استثنائية أو الاشتراك فى عضويتها، كمحاكم أمن الدولة أو محاكم الوزراء أو محاكم القيم أو غيرها مما لا تجيزه الشريعة الإسلامية. كما يحظر إشراك أفراد من غير القضاة مع القضاة عند نظر أية قضية، سواء أكان الأفراد فى صورة محلفين أم محكمين. كما يحظر تعيين مدعٍ اشتراكى، أو غير اشتراكى، سوى النائب العام المنوط لهيئته سلطة الاتهام. كذلك يحظر انتداب أو إعارة رجال القضاء أو النيابة العمومية فى أية وظائف داخل أو خارج الوطن بخلاف القضاء سوى التدريس فى الجامعات. كما لا يجوز ترشيح أى من رجال القضاء أو النيابة كأعضاء لمجلس الشورى أو كوكلاء للشعب أو لرئاسة الدولة أو تعيينهم فى وظائف الوزراء أو فى أى مناصب تنفيذية إلا بعد التقدم باستقالتهم من الهيئة القضائية. ولا يجوز تدخل السلطة التنفيذية فى تعيين أو نقل أو تأديب القضاة، ويقتصر دورها على توفير الاعتمادات اللازمة للقضاء ورواتب القضاة طبقا للميزانية المقدمة من المجلس الأعلى للقضاء. كما يحظر انتداب أى قضاة للعمل بالجهاز التنفيذى للدولة فى أية صورة ما لم يتقدم المنتدب باستقالته من القضاء، أو اختيار القضاة أو أعضاء النيابة للإشراف على الانتخابات أو الاستفتاءات بمعرفة السلطة التنفيذية، وإنما يختص المجلس الأعلى للقضاء بهذا الشأن، وليس على السلطة التنفيذية سوى تيسير مهمة القضاء فى الإشراف على الانتخابات وحمايتهم. تدعيم الهيئة القضائية آن الأوان لزيادة عدد أعضاء الهيئة القضائية فى مصر الذى لا يتجاوز 11 ألف عضو بغرض الإسراع فى نظر القضايا والفصل فيها، حيث يشهد الدانى والقاصى بطء الإجراءات القضائية وتأخر الفصل فى القضايا مما ترتب عنه ضياع حقوق كثير من المتقاضين، لذا نرى ضرورة تعيين 5000 عضو جديد فى النيابة العمومية والقضاء. ويمكن إتمام هذا الأمر بتحويل عدد من أعضاء النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة إلى النيابة العمومية والقضاء العادى، بالإضافة إلى تعيين عدد من المحامين المرموقين والمشهود لهم بالنزاهة فى مناصب قضاة، كذلك عدد من خريجى كليات الحقوق والشريعة والقانون للتعيين فى وظائف النيابة العمومية على أن يتم الاختيار طبقا لمعايير عادلة تضمن إتاحة فرص متساوية لجميع المتقدمين وأن يكون التقدير العام وحسن السلوك هما الفيصل فى التعيين. علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية تقتصر علاقة السلطة التنفيذية بالهيئة القضائية على ما يلى: - تدبير الأموال اللازمة لتيسير شئون أعضاء الهيئة القضائية من قضاة ونيابة ومعيشتهم طبقا للميزانية المقدمة من المجلس الأعلى للقضاء. ويتولى رئيس الدولة بوصفه رأس السلطة التنفيذية أو الحكومة التى تمثله إحالة الميزانية إلى مجلس الشورى لبيان الرأى والفتوى ثم إلى المجلس الأعلى للمراقبة والتقويم لإقرارها قبل تنفيذها. - إعداد الأبنية والقاعات والمحاكم والمكاتب المختصة للتحقيق أو التقاضى. - تيسير إجراءات ورسوم التقاضى على الناس وتسهيل مهام القضاة وانتقالاتهم وطلباتهم من أجل تقصى الحقائق خلال المقاضاة مع توفير الحراسة اللازمة لهم ولدور المحاكم. - تنفيذ أحكام القضاء بإقامة الحدود وتطبيق العقوبات وتحصيل الحقوق. أما حقوق الحاكم بصفته ممثل الأمة والنائب الأول عنها لدى القضاء فتحدد فيما يلى: - حق الطعن فى الأحكام الابتدائية التى تصدر فى قضايا تمس المصلحة العامة للأمة مع عدم الإخلال بحق الحاكم الشخصى فى الطعن فى الأحكام التى تصدر ضده بصفته الشخصية. - حق العفو فى جرائم التعازير. ويشمل حق العفو عن الجريمة بعد وقوعها وحق العفو عن العقوبة أو جزء منها بعد إصدارها. وجرائم التعازير هى الجرائم التى لم تشرع فيها عقوبات الحدود أو القصاص أو الدية أو الكفارة ولم تضع لها الشريعة الإسلامية عقوبات محددة أو معينة، فهذا النوع من الجرائم لا يجوز فيه للحاكم العفو عن الجريمة أو العقوبة. وممارسة الحاكم لهذا الحق مشروط بالآتى: - ألا يكون العفو عن الجريمة قبل وقوع الجريمة وألا يكون العفو عن العقوبة قبل الحكم بها؛ لأن ذلك يعتبر إباحة عامة للأفعال المحرمة لا عفوا عن الجريمة أو العقوبة. - ألا يكون العفو مخالفا لنصوص الشريعة أو مبادئها العامة وروحها التشريعية. - ألا يكون للعفو أى أثر بالمساس بحقوق المجنى عليه الشخصية. - أن يكون العفو مقصودا به تحقيق مصلحة عامة أو دفع مفسدة. * حق العفو بصفته ولى المجنى عليه عن العقوبة فى جرائم القصاص والدية إذا كان المجنى عليه قاصرا ولم يكن له أولياء، إذ إن القاعدة الشرعية أن «الحاكم ولى من لا ولى له». وهذا الحق أيضا مشروط بألا يكون العفو مجانا، أى تستبدل فيه العقوبة بالدية أو بعقوبة التعزير، ولا يجوز فى هذه الحالة أن يستخدم الحاكم حقه فى العفو مرتين فى الجريمة نفسها، مرة عن عقوبة القصاص بصفته ولى المجنى عليه ومرة عن عقوبة التعزير بصفته ولى أمر الأمة وممثلها الشرعى.