أعتقد ولست وحدي في هذا أن هناك أزمة حقيقية يمر بها التيار الإسلامي الآن هذه الأزمة هي تغلغل ما يسمى باليسار الإسلامي في أوساط الشباب. والحقيقة أن مصر الخمسينيات وحتى بداية السبعينيات لم تعرف سوى لون واحد من الثقافة وهو الثقافة الاشتراكية وكل من ولد أو نشأ في هذه الفترة "بلا استثناء تقريبا" أسير للخطاب الاشتراكي "وربما الشيوعي أيضا". هذه الفترة ولدت عددًا هائلاً من المفكرين وأنصاف المفكرين والكتاب والمحللين الذين تلبسوا تلبسًا هائلاً بالنموذج الاشتراكي. هذا التغلغل في رأيي كان له سببان؛ السبب الأول أن الدولة كانت تبشر بالعقيدة الاشتراكية على جميع المستويات من المهد إلى اللحد، السبب الثاني أن العرض الثقافي الرأسمالي في العالم العربي "في حدود علمي أنا" كان منعدمًا فلم يكن لدينا كتاب رأسماليون عرب لمواجهة المد الشيوعي هذا في مجتمع كانت الحركة الإسلامية فيه أسيرة بالمعنى الحرفي أو المجازي للكلمة، لذلك عندما بدأت الحركة الإسلامية في التنفس ولو قليلا طرحت المجامع الشيوعية والاشتراكية سواء الحقيقية أو تلك التي "تمشركت" إن صح التعبير نفاقًا للطاغوت الهالك، سؤالاً يبدو غبيًا في الواقع وهو.. هل الإسلام "أقرب" للاشتراكية أم للرأسمالية. وهنا لا يفوتني أن أنبه على أن النموذج الإسلامي متفرد لا يمكن قياسه على أي من النموذجين أو تعريفه حتى بأنه نظام مختلط. وبسبب سنوات طويلة من الذم المستمر للطرح الرأسمالي لم يتم تقديم الإسلام على أساس أنه دين رأسمالي إلا من قبل القلة التي كانت تجاهر بالباطن الإلحادي لليسار، وتم لأول مرة تقديم مصطلح الاشتراكية الإسلامية. ومع بداية السبعينيات حمل السادات حملة شنيعة على اليسار وبدا للسادات أنه وجد المصباح السحري وهو الحركة الإسلامية فشجعها أو على الأقل لم يحاربها كسابقه الهالك وبالفعل بدأت الحركة الإسلامية تزدهر بينما أخذ اليسار في الانزواء والاضمحلال. وهنا محل الشاهد من تلك المقدمة.. ما هو مصير النخب الثقافية الاشتراكية، فقد حمل هؤلاء رحالهم وحطوا على الدعوة الإسلامية وكل ما تغير فيهم هو لقب إسلامي في آخر التعريف بالذات. والحقيقة أن هؤلاء وسوف أختص منهم بالذكر نموذجين فقط مع كامل احترامي "لأحدهما على الأقل" لم يتغيروا قط. هم ما زالوا بالأعماق شيوعيين أو اشتراكيين لكن كلامهم مغلف بقشرة صغيرة للغاية من الخطاب الإسلامي!! خذ عندك مثلا المفكر الكبير الذي كان ضيفًا دائمًا على بعض القنوات الإسلامية حتى منَّ الله علينا بغلقها (اللهم لك الحمد) والأستاذ الكبير (وهو طبيب بشري بالمناسبة) أستاذ كبير في التهييج والرجل خريج مدرسة النعرة القومية حتى أن بعض الإخوة العاملين بمجال الدعوة وصفه بوصف عبقري في الحقيقة وهو أنه دائمًا يضرب أي موقف في مليار. وبنظرة بسيطة على إنتاجه المنطوق أو المكتوب منذ الثورة على الأقل تجد أنك أمام لطمية متحركة فحتى في تأييده للزعيم الإخواني بشره بالموت في موقف لا يخلو من كوميديا حيث قال له "أرى على وجهك هالة شهيد وأنك مقتول لا محالة" آه وربنا المعبود، والطريف أن كليهما طابق على نفسنا ولم يمن الله علينا ولا عليهم بأن يستشهد منهم أحد!! هذا فضلًا عن مناشداته للمجلس العسكري التي تلتها دعواته بشن الحرب "ضمنًا" على المجلس العسكري وهكذا دواليك. كل كتابات الرجل عبارة عن لطميات ثقافية على طريقة الجاهلية الأولى "يا لثارات بني فلان" طبعًا هذا لا يمنع قدرًا لا بأس به من التعديات اللفظية والسباب أحيانًا فهؤلاء كلاب وهؤلاء أوغاد وهؤلاء أفاعي أو... أبناء الأفاعي!! النموذج الثاني هو كاتب كبير أيضًا مشتهر بمواقفه المؤيدة للتيار الإسلامي وهو أيضًا من خلفية عروبية، والرجل لديه هوس بإسرائيل (حرفيًا) على الطريقة العروبية الشهيرة الخاصة بالممانعة وحق الرد وهذه المهاترات وهو يخرج القضية الإسلامية مع غير المسلمين من سياقها الشرعي الذي يعرفه كل دارس للشريعة لإطار آخر قومي تفننت جماعات إسلامية بعينها في تأجيجه. ومع الوقت فرخت مثل تلك النماذج اليسارية عشرات بل ربما مئات من المصغرات اليسارية الإسلامية ثم تطرفت تلك المصغرات بدورها كتطور طبيعي فبات لديك اشتراكية ثورية إسلامية!! بل بلغ الأمر مداه بأن يتبنى بعض الإسلاميين مصطلحات وأفكار ماركسية بحتة، بل وتعدينا المدى ووصلنا لمرحلة لا أرى فيها إلا المواجهة في الحقيقة عندما قام بعض هؤلاء الشيوعيين الجدد بإعادة تعريف الإسلام باعتباره دينًا إمبرياليًا!! صدق أو لا تصدق فهذا هو ما تعنيه عبارة "الخلافة الأمريكية" التي ينطقها هؤلاء المخابيل. السبب في كل ذلك أن الديانة الإسلامية بالأساس وإن لم تكن ديانة طبقية إلا أنها ديانة علمية وكأي وسط علمي يحترم التخصص والمؤهلات لم يكن ممكنًا لهؤلاء أن يجدوا لأنفسهم مكانًا متقدمًا أو حتى متوسطًا في سلم النظرية الإسلامية. فهم ليسوا علماء شريعة ولا طلبة علم لذلك كان لابد من اختراع طبقة جديدة تمكن هؤلاء من التواجد بالقمة بحيث تكون كلماتهم مقابلة لكلمات رجال العلم الشرعي فلديك مفكر أمام عالم وناشط أو باحث أمام طالب علم... وهنا تسمع للعجب الشديد طرحًا علمانيًا بحت حول التخصص وكيف أن علماء الشريعة يتكلمون في الشريعة فقط وهذا إن صح بشكل فردي بحيث يكون "أحد" علماء الشريعة غير مؤهل للكلام في شئون العامة، إلا أن الحركة اليسارية الإسلامية تطرحه بشكل جماعي بحيث يصبح عالم الشريعة للشريعة ويتولى هؤلاء مسئولية النظرية السياسية وهو جوهر الخطاب العلماني في الواقع. الطريف هنا أنه يبدو أن حركة الدعوة الإسلامية تعود للخلف في فهم نفسها فبينما يعترف العالم الآن بأن الإسلام عقيدة "لا أممية" بالأساس وأصبحت كلمة الإسلام في بعض المراجع مرادفة للفظة "لا أممي" بتنا نحن نعود لنتبنى النموذج العروبي المغفل في التفكير كقالب للإسلام... ولعل هذا والله أعلم نوع آخر من أنواع التمحيص الذي يمحص الله به الحركة الإسلامية لتفرز خبثها وهو أمر مبشر والله أعلم. يقول الشاعر الإنجليزي الشهير صامويل جونسون "القومية هي الملاذ الأخير للأوغاد"