كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يشتكي إليه ما يلقى من أهل مصر، فوقع عمر في قصته: كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك، ورفع إليّ عنك أنك تتكئ في مجلسك، فإذا جلست؛ فكن كسائر الناس ولا تتكئ. فكتب إليه عمرو: أفعل يا أمير المؤمنين، وبلغني يا أمير المؤمنين أنك لا تنام بالليل ولا بالنهار؛ إلا مغلبًا! فقال: يا عمرو! إذا نمت بالنهار ضيعت رعيتي، وإذا نمت بالليل ضيعت أمر ربي. لم ينم عمر رضي الله عنه من ثقل المسئولية وعظم الأمانة: يقول صلى الله عليه وسلم: "من ولي أمر الناس، ثم أغلق بابه دون المسكين، أو المظلوم، أو ذي الحاجة، أغلق الله عز وجل دونه أبواب رحمته عند حاجته، وفقره أفقر ما يكون إليها "(صحيح لغيره). وعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يلي أمر عشرة من المسلمين فصاعدًا، إلا جاء يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه، فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها عذاب يوم القيامة" (انظر حديث رقم: 5696 في صحيح الجامع). فعمر رضي الله عنه تحمل أمانتين وكذلك كل راع أمانة بينه وبين ربه، وهي أداء حقوق الله عليه، الفرائض. وأما ما بينه وبين رعيته في القيام على مصالحهم وتفقد أحوالهم والسهر على راحتهم، وقيام العدل بينهم، وتوفير الأمن الحياتي والغذائي وتحقيق السلام لهم القائم على العزة والكرامة، ورفع الظلم عن المظلومين ولو كلف ذلك الأمة حياتها، وحمل أمانة الدين وتبليغها للعالمين حتى تتحقق عالمية التبليغ كما تحققت عالمية الرسالة...كل هذه الأمور وغيرها هي التي جعلت عمر رضي اله عنه لا ينام ليلًا ولا نهارًا حتى لا يضيع حق ربه ولا حق خلق الله. وهذه نماذج عملية وترجمة حقيقية للقائد الرباني الذي طار النوم من عينه إشفاقًا وخوفًا من سؤال ربه عن لرعيته: قال ابن عمر: إن رفقة من التجار نزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن تحرسهم الليلة من السرقة؟ فباتا يحرسان ويصليان ما كتب الله، فسمع عمر في جوف الليل بكاء طفل فتوجه نحوه وقال لأمه: اتقي الله، وأصغي إلى طفلك. ثم عاد إلى مكانه. فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه وقال مقالته، وعاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي، فقال لأمه: ويحك، مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت:- وهي لا تعرفه- يا عبد الله، قد أبرمتني طول الليل، إني أعالجه على الفطام فيأبى إلا رضاعًا. قال عمر: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم. قال: وكم لابنك؟ قالت: كذا وكذا شهرًا. قال لها: ويحك لا تعجليه. ثم صلى الفجر، وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء!! فلما انتهى من صلاته قال: يا بؤسًا لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين؟ ثم أمر مناديًا ينادي: لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. فعجبًا من استثقال النوم على الفاروق عمر بن الخطاب، مع شدة عدله وتفقده للرعية، وكل العجب من الحكام الذين يغضون في نومهم ولم يحققوا معشار ما حققه الفاروق ابن الخطاب، بل العجب العجاب من حكام مستيقظون ولكن في الحقيقية هم نائمون، ولا أعلم متى يفيقون.