كان المحامون يتسابقون في كل قضية يتم اتهام متهمين ينتسبون للتيار الإسلامي فيها.. وكانوا يقفون صفوفًا متزاحمة.. وحتى ولو كان المتهمون قد قتلوا عددًا من الأنفس الآمنة.. أو حتى رئيس الدولة.. و قد تم ذلك مرارًا.. ففي قضية الفنية العسكرية مثلًا التي تم نظرها في عام 1974 والتي قتل فيها تنظيم المرحوم صالح سرية عددًا من الجنود والضباط المصريين.. وكان عدد المحامين في هذه القضية أكثر من مائتين من المحامين..لا ينتمي منهم إلي التيار الإسلامي سوى عشرة من المحامين على الأكثر.. بينما كان بقية المدافعين ينتمون إلى سائر التيارات الوفدية والناصرية والشيوعية والليبرالية.. ويومئذ هاجم هذا النفر القوى من المحامين النيابة العامة التي كان يمثلها وكلاء النيابة وقتئذ ماهر الجندي ورجائي العربي وعدلي حسين وصهيب حافظ لأنهم وافقوا على احتجاز المتهمين في أماكن غير آدمية.. وأن المتهمين قد تعرضوا للتعذيب دون اتخاذ إجراءات جدية من النيابة العامة.. وفي عام 1981 تكرر الأمر بعد مقتل أكثر من 60 ضابطًا وجنديًا على يد الجماعة الإسلامية.. بل إن السادات نفسه -رحمه الله- قد سقط سريعًا بطلقات الرصاص التي أطلقها عليه المرحوم خالد الإسلامبولي –رحمه الله- ومع ذلك وقف أكثر من مائتين وخمسين محاميًا لم يكن ينتمي منهم إلى التيار الإسلامي سوى عشرين من المحامين أما الباقون فقد كان انتماؤهم إلى مصر كلها.. وإلى الأفكار التي تنوعت حتى كونت تاجًا فكريًا رائعًا كان عنوانًا على قدرة الإنسان على التفكير والاختلاف.. فكان الدكتور مندور الوفدي الذي كون مزيجًا فريدًا بين الليبرالية والفكر الإسلامي وكان أحمد نبيل الهلالي الشيوعي الخلوق وكان من بينهم الناصري الفريد في اسمه ووصفه فريد عبد الكريم وعشرات وعشرات.. واجتمعوا جميعًا على استنكار التعذيب ومهاجمة النيابة العامة في أمر سكوتها عن انتهاك حقوق المتهمين.. واحتجازهم في أماكن غير لائقة بآدميتهم حتى توج القاضي الرائع المستشار عبد الغفار محمد –رحمه الله- هذه المنظومة الإنسانية في الدفاع عن حقوق الإنسان بإحالة أكثر من أربعين ضابطًا إلى النيابة للتحقيق معهم بينما اعتبر التعذيب سببًا مخففًا للعقوبة.. فلم يحكم على واحد من المتهمين بالإعدام.. وإنما اكتفى بعقابهم بمدد متفاوتة بالسجن أو الحبس... وخرج المحامون وهم من سائر الاتجاهات السياسية وهم قد أدوا الرسالة بين ضحكات المحامي الوفدي "كمال خالد".. وخطابة المحامي القومي "محمد رزق".. وابتسامات المحامي المسيحي "رفعت إبراهيم ميخائيل" وصرخات المحامي الفذ حافظ الختام وشموخ المحامي الإسلامي عبد الله رشوان.. كل هؤلاء كانوا يستنكرون تعذيب المتهمين.. و كانوا يؤمنون بأن أسمى مهمة للإنسان هي الدفاع عن حقوق الإنسان.. دون النظر إلى فكره أو فعله أو شخصه أو جنسه... فإذا كانت يده قد ارتكبت جريمة إلا أن لجسده حقوقًا ولكرامته حصانة.. مع ملاحظة أن أغلب هؤلاء المحامين قد تطوعوا للدفاع عن المتهمين وحقوقهم دون مغنم أو مكسب.. وهم من كبار المحامين وكان المتهمون والمحبوسون أثناء تنفيذ الأحكام يستنجدون بالمحامين من شتى الأفكار والاتجاهات السياسية إذا ما طرأ عليهم طارئ ينتقص من حقوقهم.. حتى تم احتجاز العديد من هؤلاء المتهمين في سجن أطلق عليه المتهمون اسم "سجن العقرب" لبشاعته وأطلقت عليه وزارة الداخلية اسم "شديد الحراسة" وعانى المتهمون بعد ذلك أشد المعاناة.. وحينما كنت أمينًا لصندوق نقابة المحامين.. تعرض المحامي المنتسب للجماعة الإسلامية "عبد الحارث مدني" للتعذيب حتى الموت فقامت ثائرة المحامين وقدمنا أول ثورة حقيقية في نظام الرئيس مبارك ودخلنا السجن جميعًا.. وكان عددنا يقرب من الخمسين محاميًا.. وكان من بينهم تسعة من الإخوان المسلمين وثلاثة من الإخوة المسيحيين وواحد من حزب العمل الاشتراكي.. وثلاثة من الناصريين واثنان من الجماعة الإسلامية ووفدي واحد.. والباقي من المستقلين سياسيًا.. وكل هؤلاء كانوا قد ضحوا بحرياتهم وعرضوا مستقبلهم للخطر من أجل محامِ لا ينتمي إليهم فكريًا.. وإنما يجلس معهم على بساط الإنسانية سواء بسواء. فتصبح له الحقوق المفروضة والتضحية المقررة... وأشهد أن المحامين لم يلتزموا الصمت وإنما تحركوا في كل اتجاه لإدانة احتجاز المتهمين في سجن "العقرب".. إلا أن الأيام قد دارت دورتها.. وخرج المتهمون من المنتسبين إلى التيار الإسلامي من سجن العقرب بل من السجون جميعًا.. وبعد أن انتهت مدة العقوبة أو حتى قبل ذلك.. وجاء نظام الدكتور مرسي ليؤكد أن سجن العقرب هو ملك لكل حاكم يريد أن يؤدب معارضيه وأن ينتهك حقوقهم فكانت إقامة العديد من الشباب الذين صنعوا هذه الثورة فكتب الله عليهم بعد نجاحها أن يذوق غيرهم ثمرة نضالهم بينما هم يشربون الماء الملوث داخل السجن ويفترشون أرضه الحارة ويعانون من قلة الزاد والطعام والزيارة الآمنة.. بينما وعلى بعد خطوات منهم يحبس أهل الفساد منعمين في انتظار تصالح نظام الدكتور مرسي معهم.. ولا تُحْرَم حجراتهم من مرطبات الهواء والمراوح والماء الساخن وزجاجات المياه الخاصة.. وطبعًا أنا أتصور أن يصاب نظام الدكتور مرسي بالصمت أمام هذه الانتهاكات ولكن العتاب الأكبر يكون لمن عانى من هذا الظلم من قبل ومنحه الله من يدافع عنه حتى من المختلفين معه فكريًا حتى النخاع.. وهو العتاب الذي أصدره لأبناء الجماعة الإسلامية وأعضاء تنظيم الجهاد فإن لم يثوروا لحق الإنسان فلأي شيء يثورون.. و إن لم يغضبوا بسبب هذا الفساد فأي إصلاح ينشدون وبالقطع فأنا لا أطالبهم بسداد دين في أعناقهم فقد كان الصنيع لوجه الله وتطبيقًا لما يؤمن الناس به من مبادئ ولكني أذكرهم بما هو مفروض عليهم من مبادئ ولا أعرف كيف طابت لهم الحياة وهم يشاهدون شكوى العشرات من التعذيب والقتل والاحتجاز في أماكن مجهولة.. فهل نسي أفراد الجماعة الإسلامية وأعضاء تنظيم الجهاد أنهم كذلك كانوا يعانون من هذه القسوة ومع ذلك وقف معهم حتى من كانوا أحيانًا من ضحاياهم.. هل تناسوا وهم الآن مع نظام الحكم صنوان لا يفترقان فلا يشكلون لجنة تقصي الحقائق وقد فعل غيرهم معهم ذلك.. ولا يطالبون الحاكم بالعدل وقد فعل غيرهم معهم ذلك.. ولا يثورون من أجل الإنسان وحقوق الإنسان وقد فعل غيرهم معهم ذلك..! أليس عليهم أن يؤدوا الحد الأدنى من الدفاع عن الإنسان بينما هم قد حصلوا على الحد الأقصى أيام كانوا يعانون من طغيان مبارك.. إن التاريخ بعد الله ينظر إليكم الآن وقد نلتم من الآخرين كل التعاطف والمناصرة من دون أن يطلبوا منكم عطاءً ماديًا أو ينتظروا كلمة شكر أو امتنان.. أما الآن فأنتم تجلسون بجوار كرسي الحاكم الذي أودع عباد الله سجن العقرب.. وعلم بما يحدث لهم من تنكيل وتعذيب فماذا نحن فاعلون أمام صمته؟!.. وأذكر بما ذكر به الله عباده الصالحين: "واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون" الآية 26 الأنفال مختار نوح www.mokhtarnouh.com [email protected]