وفى يوم 14/10/1999 كنا -مجموعة من الإخوان المسلمين- نتحاور فى نادى المهندسين العرب فى المعادى... حول كيفية رفع الحراسة عن النقابات المهنية عن طريق القضاء أسوة بالحكم الذى حصلت عليه نقابة المحامين وأيدته محكمة النقض فى مواجهة جبروت الرئيس المخلوع... إلا أن الظلم فى ذلك الوقت لم يكن ليسمح لنا حتى بمجرد الاجتماع فقد كان يضايقه أن يتحاور جمع من أعضاء النقابات المهنية فى فك الحصار المضروب عليهم.. وفى تمام الساعة الثانية والنصف ظهرًا قامت قوات الأمن بالقبض علينا وساقتنا داخل سيارة من الحجم الكبير ولملمت معنا بقايا الخوف الذى كان يسكن صدورنا... كنا نجتمع سرًا ونتحدث سرًا ونتألم سرًا ولكننا مع أول إجراء من إجراءات القمع كنا نودع خوفنا جميعًا... وكان المتهم الأول فى هذه القضية هو "الدكتور/محمد بديع" المرشد العام الحالى للإخوان المسلمين... وكان من أحسن الأخلاق مع جلّاديه... وأذكر فى هذه القضية أن قام واحد منا فى ذات يوم بالاعتداء على "الشاويش" محمود العجوز باللفظ وبالصوت الجهورى... ذلك أنه ربما ظن أن لديه حقوقًا لدى الجبابرة فأتاه الرد سريعًا وقبل أن يحل الليل بأن ألزمته إدارة السجن بأن يحمل معه الغطاء ليفترش أرض عنبر التأديب لثلاث ليالٍ كوامل كعقوبة... ولم يكن لواحد منا حق المظلمة... ذلك أننا كنا نلتزم بالسجن وقواعده ونحترم السجّان ولو كان لا يستحق الاحترام... ونحاكم أمام قاضٍ عسكرى لا يملك أمر نفسه فأنَّى له أن يحكم على غيره.. كان القاضى العسكرى هو الملجأ الأخير للرئيس السابق حسنى مبارك بعد أن أعياه قضاة مصر فكان مجلس الدولة يقضى بإبطال قراراته ووقفها وكان القضاء الجنائى يقضى بإخلاء سبيلنا وكان القضاء المدنى يدين التعذيب ويقضى بالتعويض حتى أعيت الديكتاتور الحيل... وكان من ذاكرة التاريخ أن ترافع نقيب النقباء "المرحوم/أحمد الخواجة" الوفدى عن الإخوان المسلمين فى قضية "سلسبيل" وهى قضية معروفة قامت المباحث وقتئذ بمقتضاها بالقبض على أصحاب شركة "سلسبيل" لأجهزة الكمبيوتر، واستولت على الأجهزة وفكت شفرتها لتقف على أسماء أعضاء الإخوان المسلمين... ولم تكن هذه المرافعة هى مرافعته الوحيدة مع الإخوان المسلمين فقد تعددت مرافعاته تطوعًا مع الإخوان المسلمين وكان يشاركه ذلك الفضل العديد من أهل الفضل مثل المحامى الناصرى "فريد عبد الكريم" والمحامى الشيوعى "أحمد نبيل الهلالى"... والمحامى الكبير "الدمرداش العقالى"... والدكتور "عبد الحليم مندور" الوفدى –رحم الله الجميع- وكانت مرافعات هذا النفر على سبيل المثال يتم تدريسها فى الأسر والكتائب داخل الإخوان المسلمين... وكان هذا النفر وغيره يترافعون أيضًا عن الجماعة الإسلامية وجماعة التكفير والهجرة وتنظيم الجهاد وكنا نقابل صنيعهم بالشكر والامتنان فلم يكن أحدهم ليقبل مالًا من رجل حبسه رأيه أو اعتقلته عقيدته... أو لا يحاكم أمام قاضيه الطبيعى وأذكر أنه فى قضية الفنية العسكرية الشهيرة التى كانت فى عام1974 ترافع أكثر من مائة وست وسبعين محاميًا لم يكن بينهم من ينتمى إلى التيار الإسلامى سوى "المرحوم/فايز عبد المعز حبيب" والدكتور "عبد الله رشوان" متعه الله بالصحة والعافية... وإلى هذا الحد كان المجتمع متماسكًا وكانت الفكرة الإسلامية هى فاكهة العصر التى يقبل الناس عليها... فيتطوع للدفاع عنها من كل فكر وكل اعتقاد أساطين المحاماة... أما فى داخل السجون فقد عرفت وزارة الداخلية نوعية من القرارات كانت حديثة على جدولها وهى قرار نقل ضابط بتهمة التعاطف مع التيار الإسلامى وكان ذلك بالنقل من مصلحة السجون بأسرها... وكان بعض هؤلاء الضباط مثلًا لا يقبل علاجًا إلا من الدكتور "مأمون عاشور" لثقته فى علمه وكان غيره لا يقبل حلًا لمشاكله إلا من استشارة قانونية يتلقاها من سجين يخضع لإدارته وثالثهم يعشق اليوم الذى تكون خدمته مع هؤلاء اللذين يتناثر الخلق من ألفاظهم حتى يفيض على الجميع... عشت عمرًا مع دعوة أخلاقية رفيعة حتى لامنى فيها المرحوم "المستشار/مأمون الهضيبى" أن تنازعت رأيًا مع قاضٍ فرفعت صوتى... ولم أفعل إلا رفع الصوت فقد كنا نلام على رفع الصوت ونلام أيضًا على عدم إنزال الناس منازلهم وصاحبنى المرحوم "جابر رزق" من مصر إلى الإسكندرية ليعلمنى ما تعلمه من مصاحبة الصالحين والثبات على المبدأ فاحتقرت آلام البشرية أمام آلامه... وأعيانا جميعًا البحث فى أمر الشهيد "كمال السنانيرى" وكان من أمره أن توفى فى سجن "أبو زعبل" وأقفل التحقيق على اعتباره منتحرًا... فلما فوضنا الأمر لله استبد الحزن بالمرحوم الأستاذ "إبراهيم شرف" وحارت نفسه حتى أتاه الشهيد "كمال السنانيرى" فى الرؤيا المنامية ليخبره بأنه ما كان لمثله أن ينتحر وإنما مات مقتولًا من التعذيب... رحمه الله... كانت هذه النفوس متصلة بالله ومهمومة بأمر الدعوة... يسلم المجتمع بتصديقها عند الشهادة ويتعاطف معها فى المظلمة... ويشهد لها إذا ما عايشها ولو حتى فى السجون... كنت أتدثر بهم ليمنعوا عنى برد الشتاء حتى إذا ما أتى شتاء2011 بحثت عنهم فلم أجدهم... وتاهت منى آثارهم فطفت فى الأحياء مثل المجنون والناس يخبروننى ويؤكدون لى أن "عمر التلمسانى" و"الهضيبى" و"عبد المتعال الجبرى" و"جابر رزق" و"توفيق الشاوى" و"إبراهيم شرف" و"كمال السنانيرى" و"نصر عبد الفتاح" وغيرهم... كلهم ماتوا... وذهبوا إلى رحمة الله... حينئذ شعرت ببرودة الجو.. وأن الإسلام الذى كنت أشاهده يمشى على الأرض.. لم يعد يمشى بيننا وأن الإسلام أصبح الآن "واحشنى".. وواحشنى جداً كمان.. وعجبى !!