ذكرنا من قبل أن هناك ثلاثة أخطاء رئيسية في تصوير الشريعة الإسلامية: الإختزال والإجتزاء والإجترار! وتحدثنا من قبل عن خطأي الإختزال والإجتزاء، وتبقى لنا أن نتكلم عن خطأ الإجترار. ثالثا: خطأ الإجترار: ونقصد بالإجترار: اجترار صور تاريخية معينة عربية أو حتى غربية! وإلصاقها بالشريعة الغراء، فتصبح الشريعة مثقلة بهذه الصور الخاطئة، وإذا ذُكرت كلمة الشريعة إلا استدعى معها هذه الصور. فالإجترار هو عملية ذهنية، يقوم فيها ذهن الإنسان ب (اجترار) بعض المآسي التاريخية، والأخطاء والمصائب، واستحضارها عند سماع كلمة (الشريعة)! ويبرز في خطأ (الإجترار) ثلاثة (اجترارات) خاطئة: (1) اجترار صورة الدولة الدينية ( الثيوقراطية Theocratic ): يتصور البعض من الدولة الإسلامية أنها دولة دينية (ثيوقراطية Theocratic ) كالتي كانت فى أوروبا فى العصور الوسطى، حيث كانت السلطة مقسمة بين: الملوك والأباطرة من جانب، ورجال الكنيسة والباباوات من جانب آخر. وكان رجال الكنيسة يمثلون السلطة الدينية التى تحكم وتشرع . فقد كان الباباوات هم مصدر (الشريعة) وتحديداً منذ عام 1066م حينما أصدر البابا إنوسنت الثالث بياناً يحدد فيه سلطة البابا بإعتباره شخصاً مقدساً! ومنذ ذلك الحين وأروبا غرقت في عصور (مظلمة) وشهدت أوروبا فساداً من الكنيسة وأهلها، والتي أحالت حياة المواطن الأوروبي إلي جحيم بحق الكلمة، وتحكمت الكنيسة بإسم (الشريعة) في شتى مجالات الحياة، وفرضت الضرائب والرسوم على كل شئ، حتى أنها فرضت (رسوم) على الموت! فلابد لمن مات وأراد أهله أن يُصلى عليه في الكنيسة من أداء (رسوم) معينة! بل وحاربت الكنيسة العلم والعلماء نتيجة لأنها كانت تنتهج (الخرافات) و(الأساطير) حتى تستطيع أن تفرض سيطرتها على الناس. وأحكمت الكنيسة قبضتها على مقاليد الحكم بإسم (الشريعة)! ولا أدل على ذلك مما حدث بين البابا جريجوري السابع والإمبراطور الألماني هنري الرابع، والذي كان يعد أقوى ملوك أوربا في زمانه، ومع ذلك فقد غضب عليه البابا ذات مرة، ورفض الإمبراطور الاعتذار للبابا، فقام البابا بسحب الثقة منه، وأعلن حرمانه من الرضا الكنسي، وبالتالي حرمانه من الجنة كما يزعم! الأمر الذي تسبب في زعزعة ملك الإمبراطور الألماني، فاضطر الإمبراطور الألماني إلي أن يذهب من ألمانيا إلى روما ماشيًا حافي القدمين! وذلك حتى يُظهر ندمه الشديد على إغضابه للبابا, ثم كانت المفاجأة أن البابا رفض أن يقابله لمدة ثلاثة أيام كاملة، فبقي الإمبراطور خارج الكنيسة في المطر والبرد الشديد حتى سمح له البابا بالمقابلة! فما كان من الإمبراطور إلا أن ارتمى على الأرض يُقَّبل قدمي البابا ليصفح عنه! فلقد كان هذا هو الحل الوحيد أمام الإمبراطور العظيم ليحتفظ بملكه! لقد بلغ الضيق مداه بأوروبا من (شريعة) الباباوات المنحرفة التي ضيقت الدنيا على الأوروبيين، وعاشوا في عصور سموها هم بعصور (الظلام). فما كان من أوروبا إلا أن ثارت على (شريعة) الكنيسة، وخرج الأوربيون في الشوارع يهتفون: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)! ومن نافلة القول أن نقول أن الدولة الدينية الثيوقراطية هي دولة عرفتها الديانة المسيحية الكاثوليكية، ولم تعرفها الدولة الإسلامية. ووقت أن كانت أوروبا تغرق في الظلام كانت بلاد الإسلام يشع منها (النور) ، وحينما كان ملوك أوروبا يحكمون بإسم (السماء) كان خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخطب في المسلمين قائلاً: (أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ). فعلماء الإسلام ليسوا رجال دين – أكليروس – يحولون – بالوساطة – بين الإنسان وبين الله. وهكذا لم تستطع أوروبا أن تخرج من الظلمات إلي النور إلا بعد أن نبذت (شريعة) الباباوات ونحت الدين جانباً، فكانت العلمانية العلاج الناجح فى أوروبا النصرانية الكاثوليكية! ولكن التاريخ أخبرنا أننا ما دخلناه إلا بعد أن صار للعرب دين يخرجهم من الظلمات إلي النور (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) – البقرة 257 -. وما دخلنا التاريخ إلا بعد أن صار للإسلام دولة، أما قبل ذلك فلم يكن للعرب ذكر أو فضل أو أثر في تاريخ البشرية، ولعل في قول ملك الفرس (يزدجرد) لوفد المسلمين في معركة القادسية – 15 ه = 636 م- ما يؤيد هذه الحقيقة حين قال: " إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم، ولا تطمعون أن تقوموا لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد - الضيق والشدة -، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم"! ورحم الله الشيخ محمد الغزالي ( 1335 – 1416 ه = 1917 – 1996 م ) حينما قال: " الناس رجلان، رجل نام في النور ورجل استيقظ في الظلام ". (2) اجترار صورة الدولة الخُمينية الشيعية في ايران: الحقيقة التي تغيب عن أذهان الكثيرين أن الإستدلال بالتجربة الشيعية الإيرانية والقياس عليها استدلال خاطئ وقياس باطل! وذلك أن مسائل الحكم والسياسة عند الشيعة تختلف عن مسائل الحكم والسياسة عند أهل السُّنة. فالإمامة عندهم من مسائل العقيدة والأصول، وهى عند أهل السُّنة من مسائل العمل والفروع ، فهم يؤمنون بما نسبوه إلى أبى جعفر محمد بن على زين العابدين من قوله : (بنى الإسلام على سبع دعائم : الولاية – أى الإمامة وهى عندهم أفضل الدعائم – والطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والجهاد). والإمامة أصلها عندهم النص ، وأصلها عند أهل السّنة الإختيار، فقد قالوا بأن الإمامة عُرفت بالنص – بالتعيين – في علي ابن أبي طالب وذريته! وكان آخرهم محمد بن الحسن العسكري – الإمام الثاني عشر –، والذي يعتقدون أنه دخل سرداباً في دار أبيه (سر من رأى) ولم يعد بعد! ويعتقدون فيه بأنه المهدي المنتظر. كما أن الحاكم عندهم معصوم، لأنهم قد قاسوا الإمامة على النبوة! ولكنه عندنا أهل السُّنة بشر يُصيب ويُخطئ. إذن فلا إلتقاء بين الدولة الإسلامية السُنية والدولة الإسلامية الشيعية. (3) اجترار صور بعض الفترات التاريخية: أي استدعاء تصرفات وأقوال بعض الحكام والتي حاولوا فيها إضفاء نوع من الشرعية والقدسية على النظام القائم، حتى يصير الخروج عن هذا النظام خروجاً عن الإسلام وثوابته. ورغم أن بعض هذه الحوادث من ناحية الثبوت لم تخل من التضعيف ، ومن حيث المعنى لم تخل من التأويل، وكان ما ثبت منها لم يخل من تصرفات شخصية لا تعبر عن السياق العام الإسلامي في الحكم. فإذا كان المبدأ القرآني (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) – الأنعام 164/ الإسراء 15/ فاطر 18/ الزمر 7-. أى: لا تعمل أى نفس عملاً إلا وقع جزاؤه عليها - وحدها - ولا تؤاخذ نفس بحمل ذنب نفس أخرى. فكيف بمن يحمل (الدين) خطايا بعض أتباعه؟! يتبع ،،، والله من وراء القصد [email protected] HossamGaber.BlogSpot.Com أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]