ذكرنا من قبل أن هناك ثلاثة أخطاء رئيسية في تصوير الشريعة الإسلامية: الإختزال والإجتزاء والإجترار! وتحدثنا عن خطأ اختزال الشريعة في تطبيق الحدود الشرعية. واليوم نتحدث عن الخطأ الثاني في تصور الشريعة وهو خطأ الإجتزاء . ثانياً: خطأ الإجتزاء: تمتاز الشريعة الإسلامية بطابع الشمول، أي أنها شريعة شاملة لجميع شؤون الحياة من سياسة واقتصاد واجتماع ... وغيرها، كما أنها محيطة بحياة الإنسان احاطة تجعل منها (صبغة) تصبغ بها المؤمنين (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً..) – البقرة 138-. ف (أثر) الشريعة يبدو على الإنسان والمجتمعات كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ! وقد تحدث القرآن صراحة عن خطيئة اجتزاء الشريعة، فقال تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) – البقرة 85 -.فالاستفهام هنا للإِنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكام الله تعالى بالإِيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر! وقد ذكرنا من قبل أن أحكام الشريعة مبناها على ثلاثة أحكام رئيسية: أحكام اعتقادية وعملية وخُلقية، فهنا لا يصح في ميزان الشريعة الإجتزاء في أي جزء من الأجزاء الثلاثة! أ- اجتزاء الإيمان: لا يصح الإجتزاء في قضايا الإيمان والإعتقاد.. لأن الإجتزاء في الإيمان يُذهب بالإيمان كلية .وقد بّينت الشريعة أن (الكفر) ب (نبيٍ) واحد من الأنبياء هو كفر ب (كل) الأنبياء، قال تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) – البقرة 136-، وقال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) – البقرة 285-. وحينما بلغ عبد الله بن عمر (10 ق ه - 73 ه = 613 - 692 م) أن طائفة من الناس يُنكرون ركن من أركان الإيمان الستة – الإيمان بالقضاء والقدر – قال: "فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ" – رواه مسلم في صحيحه -. ب- اجتزاء السلوك : ولا يصح في نظر الشريعة أن يحيا الإنسان حياة مزدوجة! فلا يمكن بحال من الأحوال أن يُوجد إنسان يؤدي الفرائض ويحافظ على النوافل دون أن يكون لذلك أثراً في سلوكه الشخصي وفي معاملاته مع الناس. بل وصرح النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحب هذه الإزدواجية يأتي يوم القيامة (مُفلساً) من الشريعة! روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. ج- اجتزاء التشريع: اقتصر التحاكم للشريعة الإسلامية في معظم البلدان الإسلامية على ما يُعرف ب (الأحوال الشخصية) والتي تتضمن أحكام الزواج والطلاق والخلع وغيرها من الأمور المتعلقة ب (فقه الأسرة)، وقد حددت المادة (13) من قانون القضاء في مصر، رقم (147) لسنة (1949م) ما يعد من الأحوال الشخصية.كما أخذ المشرع القانوني أيضاً بأحكام الشريعة الإسلامية في المواريث، وصدر في مصر القانون الخاص بالمواريث رقم (77) لسنة 1943م، وقانون الوصية الواجبة رقم (71) في المواد (76-79) من قانون الأحوال الشخصية المصري الصادر عام 1946م، لمعالجة مشكلة (أولاد المحروم) أي أولاد الابن المتوفى في حال حياة أبيه. ولكن ... أليس القائل: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) – البقرة 229-، وقائل (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) – النساء 11-. (هو) من قال أيضاً: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)– المائدة 38 -، وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) – ال عمران 130-. وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) – البقرة 183 -! فلماذا نتحاكم للشريعة في الأحوال الشخصية والمواريث والعبادات، ولا نتحاكم لها في قانون العقوبات – على نحو ما وضحنا من قبل – وفي المعاملات المالية والتشريعية؟! أم أننا سنقع تحت طائلة الذم القرآني لمجتزئي الشريعة (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)؟! قال الحافظ ابن كثير (701 - 774 ه = 1302 - 1373 م) عند تفسير قوله تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) – المائدة 50 – " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم (الياَسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون.( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء ". يتبع ،،، والله من وراء القصد [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]