حكومتنا مصرة على اتباع سياسة "البالوعة المفتوحة" التي تظل بلا غطاء إلى أن تلقم آدمياً، فهي حكومات لا تكترث بالكوارث أياً كان مقدار الدمار الذي ستحدثه. لقد تم التحذير قبل وقوع حادثة الدويقة ولم يتحرك المسئولون إلا بعد أن سقطت الصخرة وهرست ما هرست من الآدميين، وستسقط صخور أخرى لتدمر وتعربد. والأرصاد الجوية حذرت المحافظات الثلاث، أسوانوجنوب وشمال سيناء، من السيول. كما أن صندوق تطوير العشوائيات بأسوان حذر قبل بضعة شهور من خطر مرتقب للسيول، ولم ينتبه أحد إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه من بؤس زادنا بؤساً، وشقاء زادنا شقاء. ولو أن محافظات أسوانوسيناء أخذت التحذير مأخذ الجد لربما أمكن تفادي هذه الكوارث أو التقليل من آثارها. وإن أنس لا أنس ما حدث في الخامس من يونيو عام 1967، فقد كان هناك علم مسبق باليوم والساعة لهجوم الطيران الاسرائيلي على مصر، ورغم ذلك ظلت طائراتنا على الأرض لتجهز عليها طائرات العدو وكان ما كان. وهل ننسى حريق قصر الثقافة ببني سويف وحريق مجلس الشورى وحرائق أخرى كثيرة. وهل ننسى حرائق القطر، واصطدامها ببعضها البعض. ترى هل سنقضي أيامنا- وقد انتهى معظمها- نعالج كوارث الإهمال واللامبالاة ولا نجد وقتاً لبناء جديد. علمونا في المدارس أن آفات المجتمع ثلاث، هى الجهل والفقر والمرض، وزاد عليهم اليوم الإهمال وما يستوجبه من كذب وغش، فتعمق الجهل وتوحش الفقر وتمكن المرض. الإهمال سمة أصبحت لصيقة بكثير من مسئولينا الذين لا يؤدون ما عليهم من واجب نظير ما ينعمون به من خيرات البلد التي حرمت على السواد الأعظم من الشعب، ولا تثريب ولا محاسبة عن الإهمال أياً كانت آثاره. والمضحك- وشر البلية ما يضحك- أن يصرح رئيس الوزراء على الملأ أن ما حدث اليوم خير، فهذه السيول ستسهم في زراعة بضعة آلاف من الفدادين. هكذا يتحول الإهمال من نعمة إلى نقمة، ولم يبق إلا مكافأة مسئولي المحافظات الثلاث لتسببهم في إفساح الطريق أمام السيول لتحيي الأرض بعد موتها، ولتزهق ما فوقها من أرواح. ويتجلى الإهمال في أحسن صورة في حديث أحد أعضاء الحزب الوطني في العريش قال فيه أن مبنى المدينة الشبابية أقيم في ملتقى السيل بالبحر، الأمر الذي ساهم مساهمة فعالة في تعاظم الكارثة، فضلاً عن مبانٍ أخرى أقيمت في مجرى السيل. إننا نكون بذلك أمام لامبالاة وإهمال يستوجبان المحاسبة. إن غياب المحاسبة سبب ما نحن فيه من بلاء حاضر وآخر قادم. المحاسبة يجب أن تسبق أو على الأقل تتزامن مع دعوة الناس إلى التبرع، ودعوة رجال الأعمال المشهورين بالشح والتقتير والذين استأثروا بخيرات البلد قبل دعوة البسطاء إلى التبرع. وماذابيد البسطاء غير البطاطين والغذاء.. وبعض الأدعية. وأين مساكن الإسكان الشعبي التي يخصص منها نسبة لمثل هذه الحالات. ومن العبث تنظيم حفلات لبعض الفنانين يخصص إيرادها للمنكوبين، إذ لا يليق في ظل هذه الكارثة حضور حفلات رقص وغناء وأهلونا في العراء بلا غذاء أو كساء. * * * يحضرني الآن ما حدث في أسوان في الستينيات، حين استدعى محافظها، اللواء سعد زايد أثرياء البلد إلى اجتماع تحدث فيه عن حاجة المحافظة إلى جهدهم ومساهمتهم للارتقاء بها، وذكّر كل ثري منهم بفضل البلد عليه، وكيف أنهم جاءوا إليها فقراء وأثروا فيها. وفي نهاية الحديث، فتح المحافظ باب المساهمة محددا المبلغ الذي يتوافق مع ثروة كل ثري منهم. كانت الحصيلة مئات الألوف، حينما كان الجنيه جنيها، استغل في النهوض بالبلد بعض الشئ. أظن أن مثالا كهذا جدير بأن يحتذى. وعلى محافظ جنوب وشمال سيناء أن يحددا جدولا زمنيا لإعادة تسكين المشردين مثلما أعلن محافظ أسوان أن إعادة التسكين وبناء المنازل المنهارة في قرى أسوان المنكوبة سيتم خلال خمسة وأربعين يوما من الآن، أي بحلول منتصف شهر مارس بإذن الله. الأمل في العدل يخفف من وقع الكارثة. وبعد إزالة آثار الكارثة لا مناص من إعمال مبدأ المحاسبة عن التقصير والإهمال.