حريق مجلس الشورى بضحيته الوحيدة، انهالت عليه تبرعات رجال الأعمال لإعادة بنائه، لأن القرش يرد بمليون فى هذه الموقعة، أما فى الدويقة التى فقدت مئات الضحايا، وتشردت فيها آلاف الأسر، فلم تحظ باهتمام رجل أعمال واحد، حتى من المتطهرين بالزكاة والصدقات فى رمضان. السبب ببساطة فى مفارقة الشورى والدويقة كما يرويه رجل دين يتلخص فى أن هناك فى مجلس الشورى من يسجل تبرعات رجال الأعمال لأن الجنيه سيرد بملايين، لكن فى جبل الدويقة، فلن يحصد المتبرع نتيجة تبرعه إلا فى الآخرة، التى لم يحسب حسابها كثيرا فى هذه الأيام، "على العكس مما سيحدث فى حلبة الشورى وسط نفاق السياسيين وموزعى البخت". الجيولوجيون من جهتهم، قالوا إن مشاكل أهل الدويقة لم تبدأ 6 سبتمبر 2008، لكنها بدأت مع ولادتهم فى العشش الضيقة فوق الجبل المتصدع، حيث لم تتعد أحلامهم المتواضعة موطن إقامتهم، مع وعود التسكين ووعيد الانهيار الذى لم تفارق مخيلتهم منذ تاريخ طويل نرصده هنا: 1993 وزارة الإسكان والتعمير ومعها هيئة المساحة الجيولوجية وحى منشأة ناصر، يحذرون بالنص: "منطقة الدويقة معرضة للانهيارات الصخرية". ولكن لا حياة لمن تنادى؟ أغلب الظن أن التحذير كان لتذكرة الأهالى بضرورة ادخار أموال تمكنهم من هجر المنطقة المهددة، "وقد أعذر من أنذر". 2 مارس 2008 بعد 15 عاما من التحذير السابق، أعلن عبد العظيم وزير محافظ القاهرة عن اتفاقية تعاون بين المحافظة ووزارة الإسكان، لإقامة مشروع إسكان سوزان مبارك لإنشاء 10 آلاف وحدة سكنية لتسكين أبناء حى منشية ناصر. 3 سبتمبر 2008 الدويقة تحزن .. وفاة طفل عمره 4 سنوات وإصابة أربعه آخرون فى انهيار منزل مكون من طابقين.. المصابون يتلقون العلاج وأسرة الطفل تتلقى العزاء. 5 سبتمبر2008 أهالى الدويقة يستقبلون رمضان فى عششهم، على الرغم من فراغ الشقق التى بنيت بتمويل من صندوق أبو ظبى وهيئة GTZ الألمانية. 6 سبتمبر 2008 سكان الدويقة يستيقظون على هزة عنيفة تزلزل جدران العشش، ينجو البعض جريا فى العراء، ويدفن البعض الآخر تحت الصخور المنهارة. وهنا يتجسد الخبر المحزن: انهيار كتل صخرية على العشش، ويبلغ وزن أكبر كتله فيها نحو 500 طن، أى أنها تكفى لطمر عائلات كاملة، ليظل الأحياء الناجون من الكارثة يبكون أهاليهم تحت الأنقاض ويستخرجونهم قطعا وإربا بأياديهم. الغريب فى هذا المشهد من سيناريو الدويقة، أن قوات الدفاع المدنى كانت تتدخل لمنع الأهالى من المشاركة فى عمليات الإنقاذ، بمبرر الخوف عليهم، ولحين وصول القوات المسلحة، لأنها الجهة الوحيدة التى تملك المعدات اللازمة للإنقاذ. مكالمات هاتفية من تحت الأنقاض تستنجد بمن فوقها.. وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان عضو مجلس الشعب عن دائرة منشية ناصر يتساءل "هو أيه اللى حصل فى الدويقة!"... والرئيس يتابع من مكتبه. 7 سبتمبر 2008 الدويقة تنهار .. قوات "الأهالى" للإنقاذ المدنى تساعد فى استخراج نحو 40 قتيلا و50 مصابا، بالتعاون مع القوات المسلحة التى حضرت بكامل معداتها لتفتيت الصخور واستخراج بقايا البشر، فيما تتوعد الصخور أهالى الدويقة وتهددهم بانهيار آخر، حيث استمرت فى إرسال قطع صغيرة على رؤوس الناجين، لتؤكد جدية تهديدها. وبعد الحادث المروع، أعلن محافظ الفيوم عن صرف 5 آلاف جنيه لأسر الضحايا "الفيوميين"، ووزير التضامن الاجتماعى الدكتور على المصيلحى يقرر أيضا صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه لأسرة كل متوفٍى وألف جنيه لكل مصاب، لكن محافظ القاهرة لم يدخل حتى الآن حلبة التبرعات أو المساعدات، كما لم تحدد بعد تسعيرة من فقد أكثر من خمسة أشخاص من عائلته. 8 سبتمبر 2008 أنين الأحياء يستمر تحت الأنقاض، والأحياء يصرخون لاستجداء جهات الإنقاذ. رقم 47 ظهر فى خانة القتلى على عداد الحادث، فيما سجل عدد المصابين 57 والعداد مستمر، ليؤكد الدكتور يحيى قزاز أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، أن ما حدث كان متوقعا منذ عدة سنوات، ليثبت للجميع أن هناك مسئولية سياسية وراء الحادث، لكن لا نتيجة. الغريب فى الأمر أيضا، أن محافظ القاهرة قد عرض فى اجتماعه مع الرئيس مبارك تقريرا مفاده أن التحذير من كارثة مشابهه بدأ فى 1993. من المستغرب أيضا: زيارة أحمد قذاف الدم لأهالى الدويقة، وهدوء النائب محمد إبراهيم سليمان نائب الدائرة، حيث كان قلبه مطمئنا على أبناء دائرته، ويتابع أخبارهم هاتفيا. 11 سبتمبر 2008 أهالى الدويقة نيام فى المخيمات التى ينامون فيها، ويحلمون بالشقق السكنية التى وعدتهم بها سيدة مصر الأولى، ويشكون من احتمالات تعرضهم للأمراض الوبائية، نتيجة التلوث البيئى الذى يلف مخيماتهم. 15 سبتمبر 2008 فجأة وبدون مقدمات، يعتصم نحو 30 أسرة من أسر المنطقة أمام مبنى محافظة القاهرة، قد تكون تلك الأسر تغاضت عن المقدمات لأنها وجدت نفسها فجأة فى الشارع مطرودة حتى من مخيمات الإيواء، فيما ينكر الأمن حقهم فى استلام الشقق البديلة، وقد يكون مجرد تمرد طلبا لمزيد من الرفاهية فى تلك المخيمات.. 20 سبتمبر 2008 لم يجد أهالى الضحايا فى تعزية أيمن الظواهرى ولا فى مطالبة أحزاب المعارضة بمحاكمة الحكومة، مهدئا أو حلا يأويهم فى الشتاء المقبل، ويحمى رؤوسهم من الصخور التى تهدد بالسقوط. قد يكون الأمل معقودا فى اللجنة التى شكلها رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات جودت الملط، لبحث مشاكل التسكين فى الدويقة ويعد الملط بتقديم التقرير نهاية الشهر الجارى، ليظن الكثير من المتابعين أنه تم الاتفاق بخصوص الصخرة الكبيرة التى دفنت الكثير تحتها، ليكون القرار بأن تترك مكانها كنصب تذكارى للشهداء. 23 سبتمبر 2008 الصخرة تنفذ تهديدها فى 8:30 صباحا، محدثة انهيارا آخر، لكن هذه المرة بلا ضحايا، وبدا أن الحكومة المصرية لم تلسعها "شوربة" الكارثة الأولى، على الرغم من تحذير لجنة الجيولوجيين التى عاينت الصخرة الثانية منذ 3 أيام، وحذرت من وقوعها فى هذا التوقيت، ولكن لا حياة لمن تنادى. نهاية شهر سبتمبر تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات يصدر ويبرز التجاوزات فى حق أهالى الدويقة فى التسكين ويدين تباطؤ الحكومة فى الأزمة... إلخ، وأهالى الدويقة يعتصمون للمطالبة بحقهم فى الشقق ويشكون قلة المؤن الغذائية فى مخيمات الإيواء، مع تفشى الأمراض بين الموجودين، ويستمر التجاهل الحكومى، فيما تتواتر أخبار متابعة الرئيس للحادث.