تعيش الأحزاب الإسلامية حالة من التيه والارتباك السياسي الغريب التي تجعلك في حيرة من أمرك ليس فقط في كثرة أعدادها الغفيرة التي تكاثرت بصورة مضحكة ودون أن يكون في برامجها أي فارق يرتبط بمنهجية الإصلاح لكل حزب أو ينعكس على رؤيته الاقتصادية وإنما هي عموميات إنشائية وتعبيرات جامعة ومبادئ عامة تتشابه فيما بينها إلى حد التطابق وتعبر عن صور خاصة من البروز والتفرد ليس مجالها الوقت الذي تمر به مصر، ليس هنا موطن الاستغراب وإنما مناط التيه الذي أقصده هو الذي تلمسه في أداء بعض هذه الأحزاب الإسلامية لدورها مع المستجدات السياسية اليومية في مصر، والتي لا توحي لك أبدًا أنها صادرة عن منهجية مطردة أو خط سياسي مستقيم يحكم تصرفاتها إنما أنت أمام قرارات سياسية مفاجئة وأشبه ب(مصايب صادمة) و(نتوءات بارزة) لا علاقة لها بما قبل أو بعد، ولا يمكن أن تكون منسجمة مع نسقه الفكري والذي حاول رسمه لنفسه وهنا السؤال لماذا نشعر بأن الأحزاب الإسلامية تائهة؟ أو فاقدة للبوصلة هل الممكن أن نقول أن السبب يعود إلى حداثة عهد الحركات الإسلامية بالتمكين والذي تفتقد الحركة الإسلامية ملكة فقهه وفن التعامل مع تفاصيل حياته السياسية على عكس فقه الاضطهاد والملاحقات الذي عاشته دهورًا طويلة فأتقنته وأصبح غالبًا على خطابها وإلا فماذا يعني الحديث عن المؤامرات والثورة المضادة في زمن الرئيس فيه إسلامي ويملك إقالة أي وزير ومحاسبة أي مسئول ومجلس شورى إسلامي له حق التشريع وحق الرقابة إلا مثالًا حيًا على سيطرة عقلية التآمر على خطاب بعض الحركات الإسلامية مع عدم وجود المقتضي لذلك؟ أم أن هذا الارتباك يعود إلى غياب المهنية السياسية في الأداء الحزبي للحركة الإسلامية لأن السياسة أولًا وأخيرًا هي فن ذو قواعد وأعراف وضوابط وأصول، ولأن من يمارس السياسة يجب أن يكون ملمًا بأصول هذا الفن وليس شيخًا يتكلم مما يقرأه من جرائد في مقر حزبه ولقد قدر الله لي أن أزور (بيت تفكير) لأحد الحركات الإسلامية الشهيرة والمناضلة وشاهدت كيف يتم تدريب المتحدث الرسمي من خلال رسم دوائر فكرية ومسارات منهجية لحديثه بصورة مهنية رائعة وما هي الدورات التي يخضع لها مكتبها السياسي على خبراء في صناعة القرارات السياسية ومسارات صناعة القرار السياسي وغير ذلك من مهنيات المنظومة السياسية المتكاملة؟ أم يعود ارتباك الأحزاب إلى غياب الرؤية الشاملة أو التوجه الاستراتيجي للحزب ذاته والتي تنعكس على قراراته في مستجدات الحياة السياسية فترى الحزب يتعامل يوميًا (بالقطعة) ويجلس قادة الحزب كل يوم ويسألون أنفسهم (ورانا إيه اليوم) ومن ثم فلا رؤية استراتيجية ولا مراجعة للقرارات بصورة مستمرة ليعرف مؤشر العمل هل هو لهبوط أم صعود ولا بوصلة سياسية تتوجه إليها قراراته إنما هي تحركات يومية أشبه بمعسكرات فرق الأمن حسب دفتر الأوامر اليومية، الحالات التي بدت ومال زالت فيها الحركات الإسلامية مضطربة كثيرة وعصية على الإحصاء لكن سأتوقف أمام بعض المواقف والتي هي أكثر بشاعة وأشد وضوحَا ومن أهمها: • تخبط الأحزاب الواضح في توقيت وفن استخدام الحشد الجماهيري والموازنة بين مآلات الاستعانة به على توجه الحزب حتى إنك لأول مرة تجد أحزابًا سياسية لها نواب في مجلس الشورى وبإمكانهم أن (يجرجروا) أي مسئول تدعو إلى مليونيات وجمع!! وتجد أحزابًا تفوز بالرئاسة والمجلس المنتخب وتشكل الحكومة ثم تحشد الشارع لدعم قراراتها فهل سمعت ذلك في دولة يحشد الحزب الحاكم لدعم قراراته وهل سمعنا أن حزبًا يشكل حكومة ثم يتقدم ذلك الحزب إلى وزير الداخلية والذي من المفترض أنه اختاره وزيرًا ليطلب منه الإذن في التظاهر لحزبه ولديه أغلبية برلمانية؟ • استدعاء الأحزاب الإسلامية لخطاب (العداوة والتحريض) في الحراك السياسي مع الخصوم السياسيين الذي هو من بقايا وأشلاء خطاب الحركات الإسلامية مع أنظمتها والذي لم تتحرر منه بعد حتى بعد زوال هذه الأنظمة فبقى مسيطرًا عليها وتم استحضاره ليكون خطابًا سياسيًا، وتلك طامة لأنه إذا كان هذا الخطاب سائغًا مع حقبة الأنظمة الباطشة فقد كان لذلك مبرره من منطلقات فكرية وربما شرعية ومن ثم فلا يسوغ أبدًا استعماله الآن مع رفقاء الوطن حتى وإن كنا نختلف معهم لأنهم مواطنون لهم ما لنا ومن حقهم التعايش السلمي معنا وأن نحاول التوصل معهم إلى حلول سياسية طيلة الوقت وجعل الباب مواربًا أما استدعاء خطاب العداء بما فيه من شحن عقدي ونفسي وتقسيم الناس فإنه يصنع في الوطن قنابل موقوتة تنفجر في أي لحظة سانحة أو موقف مهيج كما حدث وأنتج هذا الخطاب مقتل بلعيد الناشط التونسي، ولذلك أصل من الهدي النبوي فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تعامله مع منافقي المدينة (نفاق عقدي) تعاملًا خاصًا باعتبارهم شركاء المدينة فمع علمه بأعيانهم لم يخرجهم كما أخرج يهود وستر عليهم ولم يكشف عن أسمائهم لكل الصحابة ولم يفضحهم ولم يرق دم منافق واحد، معللًا ذلك حتى لا يقال إن محمد يقتل أصحابه وشك أن في ذلك إشاعة للتمزق الوطني في المدينة بل كان صلى الله عليه وسلم يقدم لهم الأعذار بين يدي الصحابة من ذلك ما رواه مسلم من حديث علي حينما بعث إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من اليمن بذهبة، فقسمها بين أربعة نفر وفي الحديث فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال : يا رسول الله اتق الله ! فقال : ويلك ! أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله . قال ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : لا لعله أن يكون يصلي . قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم وكان صلى الله عليه وسلم مع ذلك يعفو عن المنافقين رجاء توبتهم وإسلامهم واستغفر لعبد الله ابن أبي ابن سلول وصلى عليه في قبره ونهاه ربه وكفنه بثوبه صلى الله عليه وسلم مع ما فعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكائد وصلت إلى النيل من عرضه الشريف. إن المطلوب منا – طالما أننا نحمل لواء الإسلام - أن يكون خطابنا السياسي متضلعًا بقيم الإسلام كالعدالة والمساواة والكرامة وحب الخير للناس جميعًا حتى وإن كنا نعلم مكائدهم لأن أصحاب المشروع السياسي الإسلامي في الأصل هم حملة لواء رحمة ورفق بالمخالف وإنصاف وصدق معه وما الذي يضير الحركات الإسلامية أن تستبدل خطابها العدائي ليكون سياسيًا محترفًا لا يتهم نية ولا يخترق قلبًا ولا يسفه رأيًا يترك الباب مواربًا يجمع ولا يفرق يعرف كيف يساوم ويتقارب ومتى يصر ويثبت ولا يخلط بين الموقف السياسي ويحيله عند الضيق بصاحبه إلى الدين والأيديولوجية لنتهم صاحبه بالفسق أو الكفر أو النفاق ثم ماذا بعد؟ • مشكلة الضباط الملتحون... لها أشهر عديدة وحلها بسيط في دول المؤسسات ولو كان (الجو الماشي) الآن هو (معركة الشرطة) وليست (معركة القضاء) لوجدت هذه القضية في الصدارة بل وخرجت الأحزاب الإسلامية بمليونية من (أجل تعطيل أحكام القضاء)، ولكن لأن القضية لم تصادف استغلالًا سياسيًا لم يعرهم أحد اهتمامًا تمامًا كما جاءت اتصالات الأمن الوطني في غير وقتها لتمر على سمع وبصر بعض الأحزاب الإسلامية مرور الكرام اللهم إلا من بعض البيانات التي هي من باب (رشوة الضمير) أقول حلها هذه المشكلة بسيط وسهل وهو أن يقدم نواب الأحزاب الإسلامية في الشورى استجوابًا لوزير الداخلية ويقف على المنصة أمام النواب ويوقفوه على ضرورة بيان السبب الحقيقي لعدم تنفيذ أحكام القضاء فإن أجاب واقتنعوا بإجاباته كان بها ونعمت وإن كانت إجاباته غير مقنعة وركيكة كان من حق النواب التقدم بطلب سحب ثقة ثم التصويت عليه وتقوم الحكومة بتقديم مرشح آخر لوزارة الداخلية، الحقيقة أن الأحزاب الإسلامية مطالبة اليوم بتقديم أداء سياسي محترف ينم عن إدراك بمقتضيات عملهم السياسي وشرعية وجودهم في مثل هذه المجالس.