ما من أحد إلا ويشعر أن الأمن والذى هو أحد أهم متطلبات الحياة الكريمة بات غائبًا فى مجتمعنا وهو ما يدعونا إلى التدبر فى الأمر. الأمن بطبيعته قبضة حديدية إن لم تكن عادلة فهى باطشة وهو ما لا يمكن للمجتمع أن يحيا فى ظله، أما الأمن فى ظل منظومة عادلة فركن ركين من منظومة الحياة الكريمة ومنظومة التنمية على حد سواء. ورغم ما تقوم به الدولة فى هذا المجال إلا أن ناتج ذلك محدود للغاية أمام تصعيد من جبهات عديدة لا ترغب فى بسط منظومة الأمن فى المجتمع. وفى اعتقادي الشخصي أننا دون التفكير فى حل جذري لمنظومة الأمن سيظل الأمر على ما هو عليه بل وسيزداد عنفًا عن طريق إدخال عناصر جديدة في لعبة الحكم ومنها على سبيل المثال لا الحصر العشوائيات. منظومة الشرطة بوضعها الحالي التى لا يتواكب عملها مع ما تصدره الجهات القضائية بات شوكة في ظهر الوطن. والعجيب في الأمر أن المواطن العادي يشتكي من بطء إجراءات بل وعدم استجابة وحدات تنفيذ الأحكام لما يصدره القضاء من أحكام هو نفسه الذي يجد المنظومة القضائية تفرج عن مثيري الشغب والذين يعتدون على ممتلكات الشعب وأرواح مواطنيه. هذا التناقض العجيب الذي لا يدل إلا على أن الأمر مسيس أو فاسد وكلاهما سبة في جبين الوطن. القضية تحتاج إلى معالجة غير تقليدية سواء في منظومة القضاء أم في منظومة الشرطة وهو ما ننتظره من الحكومة، أما أن تغض الحكومة الطرف عن المشهد برمته فإفساد يكافئ إفساد النظام السابق إن لم يتفوق عليه حيث يعم هذا الفساد الأمني الجميع بدلًا من توقفه عند شريحة معينة كما أنه يضرب بعرض الحائط آمال الشعب الذى اختار منظومة حكم أملًا أن تكون عادلة! ولا يمكننا معالجة الأمر بعيدًا عن المنظومة القضائية الشامخة التي باتت مرتعًا لأبناء القضاة والتي تم التلاعب فيها بسن المعاش لصالح أفعال بعينها ينفذها أفراد بعينهم لا يخلو عملهم من الشبهات ناهيك عن أفعال يجرمها القانون وهو أمر يجب الوقوف أمامه بكل حزم لأن إصلاح القضاء أمر أساسي في منظومة أي عمل. هذا المشهد يجعلني أتساءل إن كان ما يتداوله الإعلام عن فساد أشخاص بعينهم في منظومة القضاء حقيقي فلماذا لا تتخذ الدولة ضدهم الإجراءات القانونية المناسبة أم أن هيبة الدولة ضاعت في مباراة كرة القدم التي أقامها بعض البورسعيديين في فترة حظر التجول منذ شهور قليلة؟ الجميع ينتظر حسمًا وحزمًا في منظومة عادلة يمكننا أن نحصد نتائجها بحوالي عشرة بالمائة من القائمين عليها وهي الكتلة الحرجة في أي منظومة إصلاح فهل بلغ الأمر منتهاه فلا نجد عُشر أفراد المنظومة الذين يقرون بوجوب الإصلاح الفوري لمنظومتي الشرطة والقضاء، أم أنه تقاعس ممن تم الدفع به لتنمية الوطن؟ تلوك ألسنة البعض أن الشبهة كفيلة بإبعاد أعضاء السلطة القضائية عن عملهم فهل هذا حقيقي أم أن هذا الأمر محل نظر حسب الشخص الذي تحوم حوله الشبهات سواء من حيث تربحه من وظيفته أم استغلالها أم الحصول على مزايا تضرب بمفهوم العدل عرض الحائط وتضرب بمفهوم الوطنية عرض الحائط باستعداء الخارج عليه؟ إن قضية الوطنية التي تلوكها الألسن باتت على المحك لأن الاحتياج الطبيعي للإنسان ليس هو فقط المأكل والمشرب بل معه المجتمع الذي يعيش فيه بواجباته تجاهه وحقوقه منه وهو أمر لابد له من فلسفة يعمل من خلالها حيث تتسع وتضيق دوائر الواجبات والحقوق تبعًا لفلسفة الحكم. وهذا الأمر يجعلنا نبحث عن تفاصيل أساسيات تلكم الأمور ليشعر من يضرب بها عرض الحائط أن الجميع ضده بحزم وعدل. في مسيرتنا الحالية باتت تلكم الأمور مشوشة في نظر العامة وبات انعكاسها على مجريات الأمور متضاربًا حتى في نظر الخاصة الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن كنه تلك الفلسفة خاصة ممن يفترض منهم الانضباط فى المنهج! قضية فلسفة الحكم لا يمكنها أن تحيا إلا من خلال آلية قانونية صادقة وحازمة وحاسمة فى آن واحد وهو ما نفتقده حاليًا. وتستحضرني هنا مقولة للزعيم مصطفى كامل: إن الأمة التي لا تأكل مما تزرع وتلبس مما لا تصنع أمة محكوم عليها بالتبعية والفناء وإن من يتهاون في حق من حقوق دينه وأمته ولو مرة واحدة يعش أبد الدهر مزلزل العقيدة سقيم الوجدان. تلكم كلمات يصح أن تكون نبراسًا لمنهج عادل في الحكم ولكنها تضيع مع فلسفة غير واضحة آلت على نفسها ألا تضع هدفًا واضحًا لخطواتها. إن الحكم ليس نزهة بل عمل شاق ولكنه قبل هذا عمل ممنهج له آلياته التي يجب أن تكون واضحة ومحددة للجميع. وأشير هنا إلى قضية الدين الداخلي والخارجي الذي يذكرنا باحتلال مصر في القرن التاسع عشر الميلادي نتيجة كثرة الدين الخارجي وهو أمر يجب التنبه إليه. إن السعي في اتجاه التنمية لابد أن ينطلق من الذات وليس من الخارج فلن يبني مصر غير أبنائها. كما أن ما يتداوله الإعلام المؤيد والمعارض لنهج الحكومة عن نهب ثروات مصر المستمر حتى تاريخه سواء بصورة مباشرة كما يشاع عن منجم السكري أم بصورة غير مباشرة عن طريق عدم الدفع بالصناعة المحلية للأمام لمؤشر خطير لما يمكن أن ننجرف إليه كدولة في المستقبل القريب. ولنتذكر أن قضية الصناعة هي بالأساس قضية تصميم فإذا كان المُنتَج تصميم مصري فهو صناعة حتى لو تم تجميعه في أي دولة. القضية أن مفهوم الصناعة بات غائبًا في كثير من الأحيان رغم كم الإعلام الذي يشير إلى قيامنا بصناعة حاسوب وقطار وغيره من المنتجات ذات التقنية العالية نتيجة عدم معرفة حقيقية بماهية الصناعة حتى إن الأمر أصبح وجهة نظر لا تركن غالبًا إلى التعريف الحقيقي للصناعة التي يمكنها أن تُحدث تنمية. إننا لو قمنا بتصنيع حقيقي لعربات القطارات لكنا فى وضع تنموي غير ما نحن فيه ولهذا يجب ألا نستخف بعقول المواطن. في أحد الأخبار التي مرت مرور الكرام على الكثيرين قضية سقوط جسم معدني من كوبري مشاة العبور والذي تقوم بتنفيذه إحدى الشركات المدنية تحت إشراف القوات المسلحة وتوقفت أغلب التعليقات عند قيام القوات المسلحة بتعويض المصابين والقتلى ولكن الأمر يحتاج إلى وقفة من نوع آخر تطرح عدة أسئلة تحتاج إلى توضيح منها آلية وأهداف عمل القوات المسلحة في المشروعات المدنية والذي هو أمر محمود لاستغلال طاقاتها بشرط أن يصب ذلك في ميزانية الدولة فلا يمكن الاستمرار في نهج وجود دولة داخل الدولة. الأمر الآخر هو قضية الإشراف على تنفيذ المشروعات المدنية والذي هو مناط عمل أحد مكاتب وزارة الإسكان فكيف حدث هذا التعارض في الاختصاصات أم أن الأمر مناط آلية تم دراستها؟ إن الاستفادة من طاقات القوات المسلحة البشرية أمر محمود في العديد من المجالات مع وجود ضوابط لذلك فالصناعة الحربية أحد أهم آليات بناء الاقتصاد بشرط أن تكون صناعة حقيقية، وأسوق هنا ما تفعله الصين وكوريا من المنافسة على تنفيذ عقود أعمال خارجية بواسطة المجندين مما يجعل عروضهما أقل من العروض الأخرى ومن ثّمَّ قامتا بإنشاء شركات مقاولات عالمية منافسة وهو أمر أثار حفيظة عدة دول ولكن النتيجة أن تلك الآلية باتت متعارفًا عليها ويمكننا تنفيذها لصالح الدولة وليس لصالح قطاع بعينه! أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]