حين انتفض الشعب ضد النظام السابق لفساده ولانعدام العدل بين جوانبه لخص مطالبه فى شعارات عديدة تصب فى بوتقة العدل الذى يفضى إلى لقمة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. هذا العدل بمنظومته يتبخر قبل أن يتسرب من بين أيدينا طالما بقيت منظومة القضاء ومنظومة الشرطة ومنظومة الفساد على ما هم عليه. ولننظر إلى المشهد فى الشارع لنجد أن أعمال البلطجة تطال معظم العائلات بل إن من بينها من فقد حياته جراء تلك الأعمال. فهل من المنطق أن نصبر على التخريب لنثبت أن هناك مخربين كما يتشدق البعض؟ الأمر جد خطير لأن منظومة الأمن تنهار وستجرف معها كل منظومات المجتمع. لقد اشتدت ضراوة قطع الطرق وسرقة السيارات بالإكراه واشتدت أزمات المرور والكهرباء والوقود وقَوِىَ عود الخارجين على النظام فمتى تتحرك الدولة أم أن الدولة تتمحور حول القصر الرئاسى فإن تغير غيرت وجهتها هى والبلطجة؟! هل ما يحدث بلطجة أم حق التظاهر؟ وهل ما يحدث قطع للطرق أم تنظيم للمرور؟ وهل ما يحدث قتل للأبرياء أم تنفيذ أحكام إعدام نيابة عن الدولة؟ أليس بيننا رجل قوى عادل يمسك بيده منظومة الأمن بحزم وبالعدل؟ يربط بين تلك الوقائع وبين تحليل رئيس الحكومة عن جرائم التحرش الجماعى فى ميدان التحرير ومنطق معالجته القانونية لها، رابط واضح جعلنى أتذكر واقعة حقيقية حدثت منذ عقود عند انهيار إحدى العمارات فى مصر الجديدة حيث استغاث شخص من تحت الأنقاض بشرطة النجدة طلبًا للمساعدة فكان الرد أنهم لا يتلقون بلاغات إلا من هاتف أرضى فبلاغات المحمول لا يعتد بها! منذ فترة قصيرة خرج علينا من يتحدث عن مرتب رئيس الجمهورية والوزراء وليته ما تحدث لأنه لم يفُض الاشتباك بين الدخل والمرتب بل ضرب بتلك المنظومة عرض الحائط حيث أشار إلى أن المرتب الشهرى للرئيس 40 ألف جنيه ومرتب رئيس الوزراء 30 ألفًا ومرتب الوزير يزيد على 20 ألفًا ولم يشر إلى الدخل. لقد بنيت منظومة مرتبات موظفى الحكومة على المرتب والبدلات والإضافات وهى منظومة آن لها أن تتغير تأمينًا للموظف وتحجيمًا للتفاوت الرهيب الحادث بين دخول موظفى الدولة. وكمثال لهذا التفاوت بين المرتب والدخل يمكننا بتطبيق المرسوم بقانون رقم 51 لسنة 2011م على أجور المعلمين أن نجد أن النسبة الإجمالية لما يتقاضاه المعلمون من حوافز ومكافآت أصبحت تتراوح بين 235% وبين 335% ولا يدخل في حساب تلك الزيادة بدل التفرغ وبدل الإقامة فى المناطق النائية وبدل ظروف ومخاطر الوظيفة، مما يعنى أن المرتب الأساسى أحياناً لا يتجاوز ثلث ما يتقاضاه الموظف! وقت كتابة الدستور اقترحت على الجمعية التأسيسية تقنين علاقة الدخل والمرتب وتحديد دخل كبار رجال الدولة وربطها بالحد الأدنى للأجور علَّها تكون قدوة للجميع، واقترحت أن يحصل رئيس الجمهورية على خمسة وعشرين ضعف الحد الأدنى للأجور المحدد بالقانون، كما اقترحت أن يحصل رئيس الوزراء على خمسة وعشرين ضعفًا، وأن يحصل نواب رئيس الوزراء والوزراء ونوابهم على خمسة عشر ضعفًا، وأن يحصل رؤساء الأجهزة الرقابية والهيئات المستقلة على خمسة عشر ضعفًا، وأن يحصل عضو البرلمان على مكافأة شاملة مقدارها عشرة أضعاف؛ على ألا يتقاضى أيٌ منهم مرتبًا أو مكافأة أخرى أو أن يحصل إضافة إلى ذلك الدخل على أية مزايا نقدية أو عينية شخصية له أو لعائلته التى يرعاها. ورغم ما بُذِل من جهد فى إعداد الدستور ورغم ما حواه من آليات للمراقبة بغية إصلاح منظومة المجتمع، إلا أن إشكالية المرتب والدخل وربط الوظائف العليا بالحد الأدنى للأجور لم يُلتفت إليها وبذا لم تُحل دستوريًا رغم أنها جانب محورى فى أى إصلاح لمنظومة العمل. وحتى نستكمل الصورة بقى أن نعلم أن رئيس جمهورية فرنسا يحصل على دخل يعادل أحد عشر ضعف الحد الأدنى للأجور فى فرنسا، كما أن دخل خوسيه موخيكا رئيس جمهورية أوراجواى التى تسبقنا بخمس وستين دولة بمؤشر التنمية البشرية وبخمس وسبعين دولة بمؤشر الفساد هو ألف ومائتين وخمسون دولارًا فقط! هلا تذكرنا سويًا قول خوسيه موخيكا عن القيادة والقدوة: إن أهم أمر فى القيادة المثالية هو أن تبادر بالقيام بالفعل حتى يسهل على الآخرين تطبيقه. لقد كان للإضرابات وللاعتصامات فى الآونة الأخيرة طعم غريب حيث أعلنت بعض المناطق استقلالها كما لوحت بعضها بأعلام لتلك المناطق. تكرر ذلك فى الصعيد والنوبة وبورسعيد وتناولنا نحن تلك الأحداث بلا مبالاة رغم أنها شرخ فى جدار الوطن بدأ بدغدغة مشاعر تلك المناطق منذ بداية الانتخابات الرئاسية وهو ما يغذى ذلك الشرخ! لقد واكب تلك الأحداث من المواطن العادى شعور معادٍ للسلطة لانعدام الأمن ولتأثير ذلك بصورة مباشرة فى وتيرة حياته التى تكاد تسير بصعوبة. هذا الأمر قد يدفع ببعض من لم يتم استنفارهم فى أحداث الشارع بين العديد من القوى السياسية والمتطلعة للعب دور سياسى فى المرحلة الراهنة إلى رفض الوضع برمته ظنًا منهم أنهم يستعيدون بذلك لحمة الوطن. القضية تبدو ككرة الثلج التى لا تذوب بل تتضخم لتحرق الأخضر واليابس. إن تقاعسنا عن البناء لهو هدم لمؤسسات الدولة، فلا يمكننا أن نقف ننتظر الفعل لنقوم برد الفعل فى كل ما يدور حولنا من تسيب ومن فساد ومن غياب للأمن وغير ذلك من سلبيات ترقى لمستوى جرائم فى حق الوطن، لأن انتظارنا للقيام برد الفعل مؤشر خطير على ضعف الدولة سيؤدى إلى تفككها وضياع التنمية من بين أيدينا مرتكنين إلى أن هناك من يتربص بنا الدوائر ويخرب المؤسسات، ولكن الأمر على العكس من ذلك فما قد يحدث إنما هو نتيجة مؤكدة لضعف آلية الإدارة. لقد ارتعشت أيدينا حتى أصبح النظام السابق حاضرًا ليس فقط فى ميدان التحرير بل وفى العديد من ميادين مصر. ورغم أن هدفه المعلن هو استرداد السلطة التى فقدها فى أيام الثورة بمختلف آلياتها مما يجهض أى أمل للإصلاح والتنمية، إلا أننا بتقاعسنا عن الفعل نعطى له مبتغاه على طبق من ذهب! إن قضية التنمية ليست بالصعوبة فسبقتنا شعوب أخرى استطاعت أن تكسر قيودها وتنطلق فى مسيرة التقدم ولكن من خلال رؤية ثاقبة فالتنمية لا تحل بالتوافق بل بمشروع تنموى حقيقى وبآليات حكم حاسمة وحازمة وشفافة وقبل ذلك وفوق ذلك لابد من أن تكون عادلة وأن تكون قدوة وذات رؤية. إن الاختيار الصائب لمفكرين ولمعاونين ولمستشارين ولوزراء ولنوابهم لا يبيعون القضية عند أول اختبار حقيقى لهم؛ كما حدث؛ لهو خطوة ضرورية فى اتجاه التنمية. يقول أينشتين: أى أحمق يستطيع جعل الأشياء تبدو أكبر وأعقد، لكنك تحتاج إلى عبقرى لجعلها تبدو عكس ذلك. فهل يمكننا التقاط ذلك العبقرى من بين أبناء الوطن؟ ومع مضاعفة أسعار الكهرباء والماء والغاز والحديد والأسمنت وبالتالى أغلب الأسعار يلح على ذهنى سؤال عن عجز الموازنة وعلاقته بجريمة فساد الصناديق الخاصة والتى بلغت حصيلتهم فى عام سابق تريليون و272 مليار جنيه لم يدرجوا فى الميزانية العامة للدولة حسب تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات للعام المالى 2008/2009م فهل مازال الأمر على ما هو عليه وبالتالى يتلاشى عجز الموازنة أم أن يد الدولة عجزت عن الولوج لهذه المساحة؟ يقول المتنبى منذ أكثر من ألف عام: نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصرٍ عَنْ ثَعَالِبِها:: فَقَدْ بَشِمْنَ وَما تَفنى العَنَاقيدُ. فهل مازال الحُراس فى غفلتهم؟ وهل مازالت الثعالب تراوغ وتستقوى وترتع فى خير البلد الذى لا يفنى؟ وهل خيراتنا لا تفنى حقاً؟ وهل معدلات التنمية عندنا بالصورة التى تستحقها دولة بحجم وتاريخ وحضارة مصر؟ أين الخلل؟ هل هو بطء أم تباطؤ، أم غياب الفكرة، أم غياب القدوة؟ أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]