أدت الحرب العالمية الثانية إلى تدمير مساحات شاسعة من المدن اليابانية، والمجمعات الصناعية، والموانئ والمطارات، وقد أدى ذلك كله إلى تدهور القدرات الإنتاجية، وإلى نقص في قطع الغيار ومستلزمات الإنتاج. ونتيجة لذلك انخفضت أعداد المصانع القادرة على الإنتاج بنسبة 40% بحلول عام 1945، وقد عانى الاقتصاد الياباني من صعوبة الوصول للأسواق العالمية نتيجة لتدمير الأسطول الياباني التجاري وللانخفاض الشديد في قيمة العملة اليابانية ولعدم القدرة على استيراد المواد الخام. وبالإضافة إلى التدهور الصناعي، عانى الإنتاج الزراعي من تدهور شديد نتيجة لعدم توافر الأسمدة ولدمار آليات التسويق الزراعي، وهكذا تضافرت كل هذه العوامل مجتمعة لتجعل حياة الشعب الياباني في غاية الصعوبة، فشاعت المجاعات وارتفعت معدلات البطالة. وكان المتوقع في ظل هذه الظروف الاقتصادية شديدة التدهور أن تتعطل محركات نمو الاقتصاد الياباني، وقد طبقت سلطات الاحتلال الأمريكية في بادئ الأمر قيودًا صارمة على إعادة بناء الصناعات الثقيلة، وعلى دخول اليابان للأسواق العالمية، وبحلول أواخر الأربعينيات عدلت السلطات الأمريكية من سياساتها الاقتصادية العقابية استجابة للتحولات الاستراتيجية على مسرح السياسة الدولية، وقامت بتشجيع استراتيجيات إعادة البناء الاقتصادي بهدف جعل اليابان حاجزًا وحليفًا ضد انتشار الشيوعية، وقد ساعدت الولاياتالمتحدةالأمريكيةاليابان على توقيع المعاهدات التجارية الدولية وعلى الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، كما ساعدت الحكومة الأمريكية على تثبيت سعر الصرف في الفترة من 1949 حتى 1971 ليصبح 360 ينًا يابانيًا مقابل كل دولار واحد، وقد أسهم تقليل سعر الصرف للين الياباني في تشجيع الصادرات اليابانية، وقد وفرت الولاياتالمتحدةالأمريكية لليابان المواد الخام اللازمة لتشغيل المصانع اليابانية بأسعار رخيصة، كما أمدتها بالتكنولوجيا الأمريكية الحديثة، وقد تعاونت الشركات الأمريكية مع مثيلاتها اليابانية لتحسين جودة المنتجات اليابانية، وقد أدى اندلاع الحرب الكورية إلى تدعيم مكانة اليابان كمركز متقدم لتموين وإمداد القوات الأمريكية المتمركزة في كوريا الجنوبية، وقد اعتمدت القوات الأمريكية آنذاك على السيارات ومواد البناء والحديد الصلب والمنسوجات المصنعة في المصانع اليابانية، وقد وظفت المصانع اليابانية أرباحها في بناء مصانع جديدة. وقد أسهمت القوى العاملة بنصيب وافر في تحقيق التنمية الاقتصادية، وبداية يجب أن نشير إلى تراكم الخبرات الصناعية لدى القوى العاملة اليابانية منذ بداية القرن العشرين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وخاصة في صناعة المنسوجات والصناعات الثقيلة وصناعة الكيماويات. وبالإضافة إلى القوى العاملة المؤهلة، ازدادت أعداد العمال القادمين من الريف للعمل في الصناعات المختلفة في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وقد عملت أعداد كبيرة من هؤلاء العمال في الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم في الصناعات الثانوية وفي قطاع الخدمات، وقد أدى إصدار قانون لمنع الإضرابات العمالية في عام 1947 إلى تركيز المصانع اليابانية على زيادة الإنتاج وتطويره. وقد مثل التنظيم الصناعي في اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية عمودًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي، حيث تعاونت البنوك مع المصانع والشركات اليابانية في تشجيع النمو الصناعي، وقد أدى هذا التنظيم الصناعي المسمى "كيه ريتسو" (Keiretsu) إلى توظيف 17% من إجمالي القوى العاملة وإلى إنتاج 26% من جملة القيمة المضافة بين عامي 1955 و 1974، ويقوم هذا التنظيم على تجمع عدد من الشركات وبنك تجاري واحد، ويسمح للبنك بتملك 5 % من أسهم كل شركة، ويقوم البنك بإجراء دراسات الجدوى الخاصة بمشروعات هذه الشركات ويقدم القروض لها عند الحاجة، وتقدم كل شركة في هذا التجمع معاملة تفضيلية للشركات الأخرى، ويؤدي هذا التعاون إلى تقليل مخاطر استحواذ الشركات المنافسة على هذه الشركات المتعاونة، وإلى توفير الاستقرار اللازم لها لتنفيذ سياسات التطوير طويلة المدى، ومن أبرز الأمثلة على هذا التجمع الصناعي إنشاء شركة "ماتسوشيتا" اليابانية ل 600 شركة تتعاون في مختلف الأنشطة الرأسمالية في عقد الثمانينيات من القرن العشرين. ومن بين أبرز العوامل التي أسهمت في النمو الاقتصادي الياباني قطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتتنوع أحجام هذه الصناعات، وتمثل جزءًا لا بأس به من الاقتصاد الياباني الكلي، وتتمتع نسبة كبيرة من عمال هذه الصناعات بامتلاك درجة عالية من تكنولوجيا الإنتاج، والمهارات الإدارية، والقدرة على تحقيق الربح، ومن بين الأمثلة الناجحة الشركات متوسطة الحجم التي تنتج مكونات السيارات والإلكترونيات للشركات الكبرى. وأخيرًا فلن يكتمل أي تفسير للنمو الاقتصادي الياباني السريع بدون الإشارة إلى الدور الفعال للتدخل الحكومي في تشكيل الاقتصاد الياباني، فقد لعبت الحكومة دورًا ماليًا بارزًا من خلال ضمان توفير الموارد اللازمة لتمويل الصناعات الثقيلة، وقد شجعت الحكومة الاستثمار في قطاعات صناعية معينة من خلال خفض فوائد القروض الصناعية. وعلى سبيل المثال قدمت الدولة 40% من القروض التي حصلت عليها قطاعات الصلب والفحم توليد الطاقة الكهربائية والصناعات الإلكترونية في عقد الخمسينيات، وقد وظفت الحكومة اليابانية مدخرات الشعب الياباني الموجودة في صناديق البريد، وأموال بنك التصدير والاستيراد، وأموال بنك التنمية الياباني في تمويل مشروعات البنية التحتية والمشروعات الصناعية الرائدة، ومن خلال هذا الاستثمار الأمثل نجحت الحكومة اليابانية في تعبيد الطرق ومد خطوط السكك الحديدية وإنشاء الموانئ. وقد خطط رئيس الوزراء الياباني "هياتو إيكيدا" في الفترة من يوليو 1960 إلى نوفمبر 194 لمضاعفة نصيب الفرد من الدخل القومي خلال عشر سنوات، وكان المستهدف هو تحقيق معدل نمو سنوي يصل إلى 7.8%، والتوسع في القاعدة الصناعية، وقد تضاعف نصيب الفرد من الدخل القومي بحلول عام 1968، ووصل معدل النمو السنوي إلى 10%. وهكذا أسهمت القوى العاملة المؤهلة، والتنظيم الصناعي التعاوني، وقطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، والتدخل الفعال للحكومة، والمساعدات الأمريكية، وتوطين التكنولوجيا الغربية، ومنع الإضرابات عن العمل في نمو الاقتصاد الياباني بمعدل 8.8% و 10.2% في الفترة من 1956 إلى 1960، والفترة من 1960 إلى 1969 على الترتيب. وقد أدى تراكم رأس المال إلى توسع الحكومة اليابانية في قطاع الصناعات الثانوية وقطاع الخدمات، وبحلول عام 1970 كان نصيب هذين القطاعين من إجمالي القوى العاملة اليابانية هو 34% و 46.6% على الترتيب، وعلى هذا، انتقل الاقتصاد الياباني من الاعتماد على الصناعات الخفيفة مثل الصناعات الغذائية وصناعة المنسوجات في بداية الخمسينيات من القرن العشرين إلى الصناعات الثقيلة مثل تشكيل المعادن، وصناعة الآلات، وصناعة الحديد والصلب، وصناعة المعدات الكهربائية، ووسائل النقل والمواصلات، ونظرًا لسياسات الدولة الهادفة إلى تشجيع التصدير قدمت الحكومة القروض والاستثمارات اللازمة لتشجيع التصنيع، وقامت بحماية الصناعات الوطنية، وقد ساعدت تلك السياسات على اقتحام المنتجات اليابانية للسواق العالمية، وبحلول عام 1960 كانت المنتجات الصناعية التي يتم تصديرها تمثل 28% من إجمالي حجم المواد المصنعة.