إذا أراد الإنسان الحكم على أمة ما من حيث التقدم والتخلف، أو الرقي والتأخر، فمن ضمن ما يتجه إلى فكره، وينتحي إليه سمعه وبصره، هو ما يتداوله العامة من أحاديث، وما يديره النخبة من حوار، فيحكم على عقلية هذا الشعب لا سيما من عقلية نخبته. ولكن الناظر لحال مصر على أصعدة السياسة والفكر تجده حتى من دون أن يعرف معناها يرمي المصريين بها ألا وهي "السفسطة". فما هي السفسطة؟! في بعض التعاريف الحديثة أن السفسطة "هي حجة حسنة المظهر لخداع شخص ما"، وكما يعرفها المعجم الوسيط "من أتى بالحكمة المموهة"، فكلمة سفسطة مشتقة من كلمة يونانية ذات مقطعين هي "سوفيا"، وتعني الحكمة و"أسطس"، وتعني التمويه. وطبعًا الخطاب واضح من عنوانه، فالسفسطة تهدف لإخفاء الحقيقة بالبيان الطيب الشيق، وإدخال الحقائق في الأباطيل لصبغ الباطل بصبغة الحقيقة فتحسبه من الحقيقة وما هو منها. والسفسطائية كمذهب نشأت في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد نتيجة لتصدي الجهلة لتعليم الناس العلوم، وترقي غير الأكفاء لمواقع الكفاءة، بعد أن أقفرت الحروب البلاد، وأفنت أصحاب العلوم والصنائع، وطبعًا نتيجة لأن كل رأي غير مبني على دراسة ومعرفة حقيقية، إذًا فهو لا أساس له قوي، فكل صاحب رأي قد يكون في قرارة نقسه مقتنعًا أن رأيه قد يكون باطلًا فيجعل أساس الإقناع برأيه هو مهارته الجدالية، وقدرته على إلباس الباطل ثوب الحقيقة الواقعة، ويزين ذلك بلي البراهين واستغلال غفلة الخصم أو المستمع، فيصير الأمر كأنه مباراة كلامية يكون الفوز فيها هو الهدف، مجرد إفحام الخصم وهزيمته وليس إظهار الحق ووصول العلم والسعادة للبشر. والحقيقة أن المسفسط يعلم جيدًا وفي تمام التأكد في قرارة نفسه أنه يسفسط، ولكنه يحس أنه مضطر لذلك كي يكون في المقام العالي في أعين الناس كصاحب الرأي السديد والعلم الوفير، وإنها لمتعة ما بعدها متعة لما ترى الناس تتبعك وتبتدر آراءك بالتصديق الذي غالبًا ما يكون أعمى ثم ينقلون آراءك ويقنعون بها بعضهم البعض بنفس السفسطة التي أخبرتهم بها، وأوصلتها إليهم عن طريقها، و قد يكون مضطرًا لذلك إرضاءً لصاحب سلطان أو ملك أو من يغدق عليه من الأموال والمناصب فيفعل المستحيل لإرضائه عملًا على بقاء النعمة فيزداد ضراوة في تزييف الرؤية وطمس الحقيقة. و القرآن يخبرنا عن المسفسطين من أهل الكتاب محذرًا إيانا منهم ومن أن نسلك طريقهم فالله عز و جل يقول: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، ففي هذا تحذير لهم ولنا من أن نسلك هذا السبيل المضلل، ثم يصف الله طريقتهم في موضع آخر قائلًا: "وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، "و هم يعلمون" أي أنهم يعلمون أنهم يخلطون الحق بالباطل من أجل الباطل، فلم إذا تجاهد وتدافع عن الباطل بينما الحق أقل مشقة، فبيانه واضح صريح وبراهينه وأدلته كثيرة عديدة، فلم المشقة في إلباس الحق بالباطل وتزييف الحقائق يا داعي الباطل؟؟ و يا مزيف إرادة الناس؟؟؟ أعلم أن الباطل فيه من الإغراء كثير، ما يجعل تجشم المشقة والتعب لذيذًا مستحبًا من أجله، ففيه المال والمتعة. وللأسف فإن الإعلام في العالم كله لم يكن يومًا حرًا، فالأقلام مستعبدة بالمال، وتدين بدين المادية، والحق أن هذا النظام العالمي قد اجتهد شياطين الإنس والجن في إنشائه فجعلوا الإعلام مجرد وسيلة لها رونق لنشر الأفكار التي من شأنها استمرار نظامهم المادي اللا إنساني البشع، فالحالة عالمية وليست في مصر فقط. والمحزن في الأحوال الجارية في مصر أن في خضم الصراع والتجاذب بين الإسلاميين وغيرهم من التيارات يحمل فيه الإسلاميون راية الدين، دين الأخلاق، دين ليس بكهنوت بل هو نظام حياة، فإذا بهم يستعملون نفس ألاعيب غير أصحاب الحقيقة، بالذات في أمور إدارة الدولة، فكيف ذاك ؟؟!! اتقوا الله فإن تصرفاتكم تحمل على الدين.