عندما صدر حكم القضاء المصري في الواقعة التي عرفت بمذبحة استاد بورسعيد، خرجت بورسعيد بكاملها تقريبًا غاضبة ساخطة ثائرة على تلك الأحكام التي اعتبرتها ظالمة لأبنائها ومجاملة لمشجعي القاهرة، بينما خرج الإخوان المسلمون لكي يعلنوا للعالم انبهارهم بالقضاء المصري الذي وصفوه وقتها بالشامخ والعظيم والمستقل وأعطوا أهالي بورسعيد درسًا عاطفيًا رائعًا في أهمية احترام القضاء وأن أحكامه هي عنوان الحقيقة، وكتب الدكتور عصام العريان أحد أقطاب الجماعة ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة، كتب تدوينه على حسابه في الفيس بوك كان نصها كالتالي: (لأول مرة نرى بداية القصاص لشهداء الثورة، نريد العدل والعدالة، قضاة مصر يتحملون ما لا طاقة لبشر به، كان الله فى عونهم، وجعلهم من قضاة الجنة)، هؤلاء القضاة الذين جعلهم الإخوان من أهل الجنة، لأنهم حكموا بحكم كان بردًا وسلامًا على قلوبهم وقتها وأنقذ نظامهم من كارثة كانت ستحدث في القاهرة، اليوم بعد ثلاثة أشهر فقط يعتبرونهم من أهل جهنم وأنه قضاء مبارك وقضاء فاسد وقضاء يضيع حقوق الشهداء، قضاة مصر الذين قال الإخوان عنهم قبل ثلاثة أشهر فقط "إنهم يتحملون ما لا طاقة لبشر به، وكان الله في عونهم" يقول الإخوان عنهم اليوم إنهم فاسدون ولابد من تطهير البلاد والعباد منهم، تلك المفارقة لعلها كاشفة عن "اللعبة" السخيفة التي يلعبها الإخوان اليوم من أجل تدمير القضاء المصري العظيم وتفكيكه وإعادة تركيبه على هواهم، وبما يسمح لهم باستباحة الدولة بدون أي عوائق أو منغصات أو منصات عدالة، والأوداج التي انتفخت أمس في مظاهرات الإخوان ضد القضاء، كانت كلها أوداج مشحونة بالخداع الذي لا يليق برسالة الإسلاميين، لقد كانت مسرحية ساذجة قام بها هواة، وربما هذه أول مرة في حياتي أشاهد حزبًا حاكمًا يتظاهر ضد نفسه، حزب السلطة يتظاهر ضد السلطة ويقدم لها مطالب بإصلاح القضاء، هل هناك دجل وشعوذة سياسية أكثر من هذا؟! وعندما سألوا المتحدث باسم الجماعة عن سبب دعوتهم لهذه المليونية، قال على الهواء ببراءة مذهلة: نحن لم ندع للتظاهر نحن فقط لبينا دعوة جبهة الضمير!!، شوف إزاي، وتحدثت قيادات الجماعة عن ضرورة أن يتخذ الرئيس مرسي قرارات ثورية لتطهير مؤسسات الدولة مثل القضاء من الفلول والثورة المضادة، وهو كلام من يتخبط في غيه، لأنه يعني عمليًا إنهاء الشرعية الدستورية واستعادة الشعب المصري العمل بالشرعية الثورية، وهذا يعني أن الشرعية الآن للشارع وليست للقصور، نقطة ومن أول سطر ليلة 11 فبراير 2011 ، وعلى الثورة أن تبحث في تشكيل مجلس الرئاسة المؤقت وحكومة إنقاذ وطني وصياغة الدستور الجديد والتمهيد لانتخاب البرلمان الجديد!!. مصر اليوم على مفارق طرق تاريخية، وعليها أن تختار الطريق الذي ستضع على قضبانه قاطرة الوطن في رحلته التي قد تمتد لمائة عام مقبلة، إما أن تتجه نحو دولة العدل والحريات وكرامة الإنسان والمؤسسات وسيادة القانون واستقلال القضاء والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات وعزل المؤسسة الأمنية والعسكرية عن العمل السياسي والحزبي، وإما أن تتجه إلى دولة التنظيم والجماعة والحزب، التي تتهمش فيها العدالة والحريات وكرامة الإنسان وتغيب المؤسسات أو تكون خاضعة لتوجيه الجماعة أو الحزب، وتنعدم فيها فرص تداول السلطة إلا بالعنف والدم، وتغيب فيها الشفافية ويتحول القانون إلى مجرد أداة تأديب في يد السلطة للمعارضين المزعجين لها، وتتحول المؤسسة الأمنية إلى جهاز قمع وسحق لإرادة الشعب وقدرته على إزعاج الحزب أو الجماعة. وأتمنى من أبناء التيار الإسلامي أن يخففوا بعض الشيء من دفق العواطف المتوترة التي تؤثر بشكل خطير في بصيرتهم بالمستقبل ومآلات الأمور، والإخوان يلعبون بمهارة كبيرة وذكاء خبير على تلك العواطف مع الأسف، بعض الإسلاميين يشارك اليوم ببراءة وحماسة في تحطيم القواعد الضامنة لحريته هو نفسه وحماية رقبته من مقصلة المستبد القادم سواء كان بعمامة أو بقبعة، بعض الإسلاميين مشغول بشيطنة المعارضة والقضاء وحتى شيطنة الأحزاب الإسلامية المختلفة معهم وكل من يتصدى للدكتور مرسي وجماعته أكثر مما هو مشغول بالرقابة على أعمال السلطة وسلوكها السياسي والإداري والقانوني والاقتصادي والأمني وهو الأهم والأخطر، بعض الإسلاميين لا ينتبه بالقدر الكافي إلى أن الإخوان يدفعون البلاد إلى ما يمكن وصفه بالمعادلة الصفرية في الصراع السياسي، وهي مخاطرة مروعة، أقرب إلى مقامرات المرة الواحدة، والدم ليس قربانها الوحيد، ولقد علمنا التاريخ أن أحدًا لا يبكي على حصاد الغافلين.. "فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد" [email protected]