تحققت وحدة وادي النيل على يد محمد علي بفتح السودان بين عامي 1820- 1882،والذي كان يتكون من عدة ممالك وسلطنات أهمها مملكة الفونج الإسلامية. وقد استمرت وحدة وادي النيل حتى الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، والذي استغل أحداث الثورة المهدية في السودان لإجبار مصر على الانسحاب من السودان، وهو ما تحقق بالفعل بعد سقوط الخرطوم في يد المهدي عام 1885 . وقد أدى انسحاب مصر من السودان إلى تكالب الدول الأوروبية على ملحقات السودان في أريتريا والصومال وبحر الغزال وخط الاستواء وأوغندة، والتي كانت تخضع جميعها لمصر، لذا قررت بريطانيا حرصًا على مصالحها استرجاع السودان، وهو ما تحقق بالفعل من خلال الحملة العسكرية المصرية البريطانية المشتركة على السودان التي استمرت من 1896 – 1898 . وقد فرضت بريطانيا على مصر عقب استرداد السودان نظامًا لحكم السودان عرف بنظام الحكم الثنائي، والذي وضع أساسه اللورد كرومر، والذي صرح بأنه "من الممكن للسودان ألا يصبح إنجليزيًا ولا مصريًا بل يكون إنجليزيًا مصريًا". وقد ترجمت هذه النظرية من خلال اتفاقية الحكم الثنائي 1899، والتي نصت المادة الأولى منها على "تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض ..." لقد جاءت هذه المادة لتكرس الانفصال بين شطري وادي النيل بوضع حدود مصطنعة بين مصر والسودان لأول مرة منذ تحقيق وحدة وادي النيل في عهد محمد علي في الوقت الذي تجاهلت فيه الاتفاقية تحديد باقي حدود السودان تنفيذًا للسياسة البريطانية القائمة على فصل جنوب وادي النيل عن شماله. لقد ترتب على وضع هذه الحدود المصطنعة لأول مرة بين مصر والسودان ظهور بعض المشكلات على أرض الواقع، حيث قسمت هذه الحدود قبائل البشاريين والعبابدة المنتشرة على خط الحدود إلى نصفين لذلك تدخل ناظر "وزير" الداخلية المصري لإصدار عدد من القرارات عام 1899و1902و1907 لتحقيق وحدة القبائل، وما يعنينا هنا دون الإغراق في التفاصيل التاريخية هو القرار الذي أصدره وزير الداخلية مصطفى باشا فهمي بإلحاق أراضى قبيلة البشاريين شمال خط عرض 22 في منطقة حلايب وشلاتين الخاضعة لمصر للإدارة السودانية. ومنطقة حلايب عبارة عن مثلث يقع في الجنوب الشرقي لمصر وتبلغ مساحته أكثر من عشرين ألف كيلو. وكان هذا القرار هو الأساس لمشكلة حلايب، والتي لم تظهر إلى النور إلا عندما تقرر إجراء الانتخابات البرلمانية في السودان فى27 فبراير1958 حيث تم إدخال حلايب ضمن الدوائر الانتخابية للسودان في نفس الوقت الذي كان مقررًا إجراء الاستفتاء على الوحدة المصرية السورية في 21 فبراير، وقد أرسلت مصر مذكرة إلى السودان في 29 يناير1958 تعترض على إدخال حلايب ضمن الدوائر الانتخابية السودانية، واعتبرت هذه الخطوة خرقًا للسيادة المصرية، كما أرسلت مذكرتين في فبراير 1958 تؤكد على إجراء مصر الاستفتاء على الوحدة في حلايب، وأرسلت مصر إلى حلايب لجنة لأخذ رأي المواطنين في حراسة قوة عسكرية. ومن هنا ظهرت المشكلة بين السودان ومصر على مثلث حلايب، وقد لجأت حكومة حزب الأمة السوداني، والتي كان يرأسها عبد الله خليل إلى رفع شكوى إلى مجلس الأمن مدفوعًا بموقف حزب الأمة المعادي لمصر، وسعيًا لاستغلال الموقف لتحقيق مكاسب انتخابية، وإلهاء الشعب السوداني عن المشكلات التي يعانيها، وقد انعقد مجلس الأمن في 21 فبراير في توقيت غير مناسب لمصر نتيجة، عداء الغرب للسياسة المصرية، والموقف المعادي للوحدة المصرية السورية، وأعلنت مصر في مجلس الأمن تأجيل تسوية الموضوع إلى ما بعد الانتخابات السودانية، وبناء على ذلك أجل المجلس اتخاذ أي قرار في هذا الشأن وإن ظلت القضية مطروحة على جدول أعمال مجلس الأمن. وقد كان لهذا الموقف أثره على الانتخابات البرلمانية حيث فاز حزب الأمة بالانتخابات، وبدا كأنه انتصر في حلايب بعد أن تم تجميد الموقف. وقد تعرضت مشكلة حلايب منذ ذلك الوقت للمد والجزر، والشد والجذب بين الدولتين وفقًا للعلاقات القائمة بين النظامين الحاكمين ففي حالة تحسن العلاقات بين القاهرةوالخرطوم تختفي المشكلة، وفي حالة سوء العلاقات يتم استدعاء المشكلة وتصعيدها، فضلًا عن توظيف هذه القضية من جانب النظام الحاكم للحصول على التأييد الشعبي. ولذلك فإنه في أعقاب مشكلة 1958 توارت المشكلة تمامًا من الساحة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده عبود 1958 في السودان ثم شهدت العلاقات تحسنًا في عهد جعفر نميري (1969 – 1985) الذي تصاعد فيه الحديث عن التكامل بين البلدين، وبعد الانقلاب الذي قاده سوار الذهب على النميري عام 1985، وإجراء الانتخابات تولى زعيم حزب الأمة الصادق المهدي الوزارة عام 1986 حيث ساءت العلاقات في عهده مع مصر ثم وقع انقلاب البشير في يونيو1989، والتي رحبت به مصر في البداية، ولكن سرعان ما توترت العلاقات بين مصر والسودان بعد أن تكشفت العلاقة بين البشير وحسن الترابي، زعيم الجبهة القومية الإسلامية، وما ترتب عليها من دعم السودان للإسلاميين، بالإضافة إلى ازدياد وتيرة العلاقة بين السودان وإيران، وفي ظل الأجواء المتوترة بين البلدين طفت على السطح مشكلة حلايب مرة أخرى وبقوة عام 1991 بعد أن منح السودان إحدى الشركات الكندية حق التنقيب عن البترول في حلايب، وسمح لبعثة يابانية بالتنقيب على الآثار بها، وهو ما اعترضت عليه مصر واعتبرت الخطوات التى قامت بها السودان إخلالًا بالسيادة المصرية على حلايب، وقامت مصر بطرح مزايدة للتنقيب عن البترول فيها، وأعلنت عن خطة لتعمير حلايب، وهو ما ردت عليه السودان بخطة مماثلة، وحاولت كل دولة أن تدعم وجودها على الأرض. وقد جرت اتصالات دبلوماسية بين البلدين لاحتواء المشكلة وتم تشكيل لجنة برئاسة وكيلي وزارة الخارجية في البلدين، وقد عقدت اللجنة اجتماعين لتسوية المشكلة، الأول في مارس 1992، والثاني في أكتوبر 1992، دون أن يتم التوصل إلى أي نتائج ، وفي ديسمبر 1992 رفعت السودان الأمر إلى مجلس الأمن، مؤكدة أن حلايب سودانية متهمة مصر باتخاذ إجراءات لتغيير هوية وضع المنطقة بحيث تصبح في النهاية تابعة لمصر، وعلى رأس هذه الإجراءات التي ذكرتها السودان توغل القوات المصرية في حلايب. وقد ردت مصر بمذكرة لوزير الخارجية المصرية آنذاك عمرو موسى أكد فيه على سيادة مصر على حلايب، وأن القوات المصرية لم تتجاوز خط 22 الذي يشكل الحد الفاصل بين مصر والسودان ويعتبر هذا الخطاب وثيقة مهمة تعبر عن وجهة نظر مصر الرسمية من حلايب. مدرس التاريخ الحديث والمعاصر كلية التربية – جامعة دمنهور [email protected]