كثيرًا ما استوقفتني قصائد الشاعر الكبير ياسر أنور، وعندما أنصرف من أمامها تلاحقني أبياتها وتجذبني من ملابسي فألتفت إليها مبتسمًا، هذا ما أحسه بالفعل، وأكتفي في هذا المقال بذكر بيت واحد من قصيدته (طلقة أخيرة) والتي نشرها في العدد (1022) من أخبار الأدب صور فيها تجربة زوجة ألقى عليها زوجها طلقتين، وهجرها وابنتيه إلى بلاد بعيدة لاهيًا بالمال وربما امرأة أخرى، غير مكترث بما حطمه خلفه من نفوس ضعيفة بريئة لا حيلة لها غير الترقب والانتظار والخوف من المجهول الذي قد يحمل إليها طلقة أخيرة تنهي العلاقة الزوجية للأبد.. أما البيت الذي سأكتفي به في هذا المقال فهو قول الشاعر على لسان المطلَّقة، وهي تشير إلى ابنتيها متسائلة: (هل يذكر اسميهما أم عنده امرأة ** قميصها ينتف الأسماء في رقة؟) سأحاول أن أبحث عن أسرار جمال وإحكام هذا البيت متوقفًا عند دلالة وإيحاء كل كلمة مفردة ثم التركيب إجمالًا، ففي تصوري أن البيت يشع بدلالات متعددة الأبعاد؛ فالاستفهام ب(هل) في أول البيت يجعلنا نشارك المرأة حيرتها المستمرة، ويلخص حياتها التي أصبحت علامة استفهام كبيرة تعيش هي وابنتاها داخلها، ثم يتصاعد بنا ذلك الشعور عندما نفاجأ بمأساوية الاستفهام؛ فنجده عن مجرد تذكر اسم الابنتين، وما يوحي به من تدني الأمل في يقظة هذا الزوج والأب إلى أقل المستويات، وهو مجرد معرفة اسمي ابنتيه، وقبل أن نظن أن مأساة تلك المرأة تنحصر في فقد الابنتين أباهما، تحضر هي بذاتها سريعًا وتتبادل المقاعد مع ابنتيها، فتبدو مشاعرها معبرة عن مأساتها هي في قولها (أم عنده امرأة) فقد اختارت أن تجعل العلاقة بينه وبين تلك المرأة المفترضة بأنها في إطار (العندية) وليس (الزوجية) لتنفي عنها أية سمة من سمات القدسية والطهر، مصورة إياها بأنها عنده كالمتاع الذي يباع ليس أكثر، وكأنها تعزي نفسها على مصيبتها في طليقها، ويتصاعد ذلك الشعور مع الكلمة التالية مباشرة (قميصها) فهذا يؤكد ما تريد المطلقة أن تقنع نفسها به من أن تلك المرأة ما هي إلا بائعة هوى، وأنها حقيرة غير جديرة بإلهاء ذلك الأب عن ابنتيه وزوجته، وإنما تلجأ إلى ألاعيب الهوى فنسبت ما حققته من نجاح إلى (قميصها) وهذا يلخص ببلاغة شديدة ما تريده تلك المرأة، وأنها تجيد القفز إلى أهدافها بحرفية متقنة، وتشع كلمة (ينتف) بدلالات لا نهائية من المكر والخديعة والكيد والحيلة، ثم تتبادل المرأة المقاعد مع ابنتيها مرة أخرى فتأتي كلمة الأسماء (ينتف الأسماء) وهي تشير إلى اسمي ابنتيها، ثم يأتي الخليط السحري بين (ينتف) و (في رقة) وكأنه حقنة تخدير نكاد نلمسها بأيدينا، ومن عجائب البيت إجمالًا أنك لا تستطيع أن تحدد بدقة على من تنوح المرأة..؟ على افتقادها الزوج والأنيس، أم على افتقاد ابنتيها الأب الحنون، أم الاثنين معًا..؟ فقد اختلط الشعوران وتمازجا وتماوجا وتناوبا في البيت بطريقة تجعلك لا تملك إلا أن تقف منبهرًا مندهشًا؛ لا تدري هل تتقدم مأساة الابنتين على مأساة الأم أم العكس، أم هما مأساة واحدة..؟ لهذا فإنني أكررها: هذا الشاعر أحبه. [email protected]