مشهد عابر طبيعي جدًا مر أمام ناظري، لكنه جعل عقلي كمركب صغير تتقاذفه أمواج بحر الظلمات العاتية، وجعل نفسي كغريق لا يجد حتى القشة التي يضربون بها الأمثلة، ذكريات عدة هبطت كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، كهوج الرياح تهز مناكب الأطواد، فدخلت في دوامة لا ماهية لها معلومة ولا صفة لها معروفة. رأيت أخي الأصغر الذي ما زال في أولى سنواته في دراسة الطب، ممسكًا بعظام إنسان سبق عليه الكتاب، وانتقلت روحه إلى العزيز التواب، وبقيت بقايا من جسده كي يعبث بها أخي الصغير وزملاؤه وأترابه تارة يدرسون عليها وتارة يمزحون مع بعضهم بها، فركبني هم عظيم، واحتجت خلايا العقل ومراكز الفكر في رأسي منادية بأعلى صوت "أفلا تعقلون؟" تتابعت خطرات وأفكار عديدة في رأسي كجند يخرجون من أرض الطابور بالخطوة السريعة بأحذيتهم العسكرية ذات النعل السميك، فهي تمر سريعة ولكن لها وقع شديد في النفس والوجدان أذكر منه الخطرات التالية. علمت أول شيء أن الدنيا حقيرة فربما جمع صاحب هذه العظام فأوعى، وربما أضاع حياته هباءً منثورًا، ربما كان صالحًا، وربما كان غير ذلك، ولكن في النهاية لا متاع من الدنيا نفعه إلا ما وجهه لوجه خالقه، وانتهى رممًا بالية يعبث بها شباب حديثو السن. علمت ثانيًا عظم مكانة الشهيد عند الله، و يكفي من كراماته أن الله يحفظ له جسده على هيئته الجميلة وتقويمه الأحسن، الذي قضى به نحبه في سبيل ربه، فلم يسلم لمغسل يقلبه ذات اليمين وذات الشمال، ولا أحيل إلى تلك العظيمات البالية، بل كرم أحسن التكريم. الشهادة في سبيل الله، كلمة عظيمة ومجد جليل وشرف منيع، يناله الإنسان إن صحت نيته، واحتقر دنياه الزائلة، وانطلق يحث الخطى إلى جنة عرضها السماوات والأرض، هب لا طلبًا لدنيا ولا جاه بل طلبًا لرفع الظلم عن أهل الأرض، الذي فرصته عليهم طغمة فاسدة، وثلة من المجرمين فيا لسعده وهناه. ثم تتابعت على ذهني صور أبطال للإسلام منهم من سبق في طلب المجد ومنهم من لحق بعد ذلك، تذكرت صورهم وكيف كانت الوجوه منيرة، والثغور باسمة مغتبطة، تذكرت الأبطال المحاربين، وتذكرت الضحايا المقهورين، دمعت العيون، وانفلقت الصدو، وشقت القلوب، وصغرنا في عيون نفوسنا. ثم تذكرت أشخاصًا أعرفهم شخصيًا نبذوا الدنيا وراء ظهورهم وباعوها بل قل رموها مجانًا ثم قاموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، استفزهم بكاء اليتامى وصرخات الأرامل ومسلوبات الشرف، وكان تخاذل الأمة الشعلة التي أشعلت نخوتهم، فحملوا سلاحهم وذخيرتهم إلى ميدان القتال حتى نالوا الفوز العظيم (نحسبهم و لا نزكيهم على خالقهم). ثم طال طابور الذكريات فتجسدت أما ناظري صور عديدة من البؤساء المظلومين، تذكرت الأطفال الذين سفكت دماؤهم في كل مكان، والرجال والنساء المساكين، تذكرت كيف الأمة التي حملها الله أمانة قتال الظلم في كل مكان ومجابهة شياطين الجن والإنس، وهي في سبات عميق ثم انتبهت أني أكثرهم سباتًا وغفلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فيا أمة محمد هبوا إلى أمانتكم التي تحملتوها فتسلموها، اصنعوا المجد والسعادة للبشرية بالعلم والعمل والجهاد والجهد، ليصنع كل منا أثرًا في حياة البشر ولا يقتصر هدفه وتفكيره ومناه في الحياة على ما يأكله الدود ويتقاسمه الوارثون.