لاحظ الزائرون للقاهرة والإسكندرية وسيناء في شهري أبريل ومايو 2006، كثافة الوجود الأمني الكبير، الذي يوحي أن مصر في حالة حرب قائمة فعلاً، أو هي وشيكة. وكررت هذه الملاحظة شخصيات من ثلاثة وفود أجنبية زارت مصر أخيراً: أحدها وفد كندي من منظمة الحقوق والديمقراطية (5-10 مايو) والثاني وفد ألماني من جامعة برلين الحرة، والثالث وفد أمريكي من رؤساء تحرير الصحف اليومية (8-9 مايو). وقد أدهشني السؤال في المرة الأولى، من الوفد الكندي الذي جاء لتقصي حالة حقوق الإنسان في مصر والتضامن مع أيمن نور. وحيث أصبحت أمورنا الداخلية شأناً يهم الكنديين، لأسباب عديدة، منها الاهتمام المعتاد لكندا بالأمور الإنسانية في العالم عموماً، ومصر خصوصاً، نظراً لأهميتها التاريخية والمعاصرة من ناحية، ولتزايد عدد المصريين المقيمين في كندا من ناحية ثانية. ولأن كندا بلد شاسع جغرافياً، وغني اقتصادياً، ومستقر اجتماعياً وسياسياً، ولم تشهد كندا حروباً داخلية أو تشارك في حروب خارجية في حياة الأجيال الأخيرة، فإن أهلها والزائرين لها لا يلاحظون وجوداً يذكر لعناصر أمنية مسلحة في شوارعها أو مرافقها. ولكن حينما تكررت نفس الملاحظة من الألمان، ثم من الوفد الصحفي الأمريكي، والذين كانوا يزورون عدة بلاد أخرى في حوض البحر المتوسط، بدأت أنا أتأمل في الأمر. لقد تعود المصريون على هذا التواجد الأمني الكثيف، منذ حروبنا مع إسرائيل، والتي كان أخرها، حرب أكتوبر 1973. ولكن، كما سأل أحد الزائرين، ألم يكن ذلك منذ 33 سنة؟ ثم صادفت بعد هذا الحديث بأيام تحقيقاً في صحيفة الدستور، لأحمد فؤاد الدين (10/5/2006) بعنوان "منذ أبريل 2005 ضحايا العمليات الإرهابية في مصر خمسة أضعاف قتلى العمليات الاستشهادية في إسرائيل". وجاءت الأرقام الموثقة في التحقيق أن الضحايا في مصر خلال تلك السنة الواحدة كانوا 89 قتيلاً و 236 جريحاً، مقابل 18 قتيلاً و95 مصاباً إسرائيلياً فقط في نفس الفترة. والطريف أو الغريب في الأمر أن الأكاديمي الألماني الذي حادثني في الأمر كان هو وزملاؤه قد حضروا لتوهم من زيارة مماثلة لإسرائيل، وقال انه لم يلاحظ نفس الشيء في شوارع تل أبيب، وإن كان قد لاحظ شيئاً مقارباً لحالتنا في الضفة الغربيةالمحتلة، ثم أردف ملاحظته بسؤال: فهل مصر محتلة؟ وظل السؤال يقفز إلى مسامعي لعدة أيام بعد رحيل الوفود الأجنبية، وكيف أننا أهل مصر من كثرة تعودنا على الوجود الأمني الكثيف، أصبحنا لا "نراه"، أو أصبحنا نعتبره جزءاً "طبيعياً" من واقعنا، كما لو كان مثل ازدحام الناس والمرور في شوارع مدننا. ولكن حينما اشتبكت تلك العناصر الأمنية الكثيفة مع آلاف المتضامنين مع القضاة في قلب القاهرة، حول دار القضاء العالي وبين شوارع 26 يوليو وعبد الخالق ثروت، وشامبليون قرب نقابتي الصحفيين والمحامين ونادي القضاة يوم الخميس 11/5/2006، أدركت أننا فعلاً في "حالة حرب"، بين الشعب وقوات الأمن المركزي. فقد كانت القسوة والشراسة التي تعاملت بها تلك الأخيرة مع المتظاهرين أشد وطأة مما نراه في أفلام الحروب، أو تلك التي كنا نراها في عنفوان الانتفاضة الفلسطينية مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. وتستمر المقارنات. ثم أرى مقالاً لإبراهيم عيسى في "صوت الأمة" بعنوان "مصر محتلة" (17/5)، فأدرك أنني لست الوحيد الذي دهمته تلك المقارنات، وتلاشت الدهشة من ذاكرتي حول أسئلة الوفود الأجنبية الزائرة. نحن في مصر فعلاً في حالة حرب أهلية. ثم حينما أصدرت السلطات تحذيراً للمصريين يوم 17/5 بعدم المرور أو التجمع أو التجمهر في أي مكان وسط القاهرة، تذكرت القانون رقم 10 لسنة 1914، الذي أصدره الاحتلال البريطاني، صبيحة الحرب العالمية الأولى، والذي يحاكم بالسجن (من 6 شهور إلى ثلاث سنوات) كل من يشارك في تجمع من خمسة أفراد أو أكثر في مكان عام، دون إذن مسبق من الشرطة. كانت تلك حالة حرب وحالة احتلال. ونحن الآن (18/5/2006) في حالة حرب واحتلال. ونحن نراها هنا في القاهرة رأى العين، ويشهد عليها العالم من خلال شاشات التليفزيون. والذين يتأملون المشهد المصري في الأسابيع الأخيرة، يدركون أنها ليست حرباً واحدة، ولكن أربع حروب متقاربة أو متزامنة. فإلى جانب المصادمات والاشتباكات في وسط القاهرة حول معركة القضاة مع نظام الرئيس مبارك. هناك اشتباكات أخرى بين قوات أمن نفس النظام مع أهالي سيناء، قاربت ثلاث سنوات، منذ تفجيرات فندق هيلتون في طابا عام 2004، وتحتدم أكثر بعد كل تفجير كبير، كما حدث في شرم الشيخ عام 2005، ثم أخيراً في منتجع دهب (25/4/2006). وتقول السلطات الأمنية أن من يرتكبون هذه الأعمال الإرهابية هم من "بدو سيناء". أي أن نظام الرئيس مبارك في حرب أهلية أخرى مع بدو سيناء، وتحديداً من شمال ووسط سيناء. وحينما نستقصي الأمر، نكتشف أن تلك المنطقة مهملة، وأن أهاليها يعاملون كمواطنين من الدرجة الثالثة، إن لم يكن "كأغراب" أو حتى "كجواسيس" و"أعداء". لقد تدفقت مليارات الدولارات على شواطئ جنوبسيناء للاستثمار في فنادقها وملاعبها والقصور والفيلات الفارهة، التي شُيّدت لآل مبارك وبقية الطبقة الحاكمة المصرية وأصدقائهم من الطبقات الحاكمة العربية والأجنبية. ويقضي آل مبارك نصف العام تقريباً في شرم الشيخ، حتى أصبحت بمثابة عاصمة ثانية لمصر المحروسة. بل وتتنافس شرم الشيخ الآن مع القاهرة في استضافة المؤتمرات العربية والعالمية، وأخرها القمة الاقتصادية لمنتدى دافوس، الذي يفتتحه مبارك نفسه يوم 19/5. هذا بينما يشعر أهل شمال ووسط سيناء بالفقر والإهمال والحرمان. فهم إلى وقت كتابة هذا المقال محرومين من ملكية الأراضي، حتى تلك التي يرعون فيها أو يزرعونها. وذلك بحجج واهية، من قبيل الاعتبارات الأمنية أو الاستراتيجية. هذا فضلاً عن أن آل مبارك الذين يقضون نصف العام جنوباً، لم يتفضلوا بتفقد أو زيارة الوسط أو الشمال، حيث لم يذهب مبارك هناك إلا مرة واحدة بمناسبة تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي قبل عشرين عاماً (25/4/1986). وبمناسبة الاحتلال الإسرائيلي وصراعنا مع الكيان الصهيوني، نذكر أن الصراع المصري الإسرائيلي المسلح دام من 1947 إلى 1973، أي لمدة 25 سنة، وقعت فيها أربع حروب، كانت أكبرها في عام 1973. ومع هذه الحرب الرابعة كان الحشد والتعبئة قد وصلا أقصاهما، حيث تضخم حجم القوات المسلحة المصرية إلى مليون مقاتل. ولكن بعد توقيع اتفاقيتي كامب دافيد ثم معاهدة السلام، في أواخر السبعينات من القرن الماضي، انخفض حجم هذه القوات إلى الثلث تقريباً، أي 300.00 (ثلاثمائة ألف). منذ ذلك الوقت، مع ذلك، بدأنا نرى مفارقتين خطيرتين. أولهما بداية حركات الاحتجاج السياسي من ناحية وتضخم حجم قوات الأمن الداخلي من ناحية أخرى. وبدلاً من التعامل السياسي مع هذه الحركات الاحتجاجية، اختار النظام أن يسحقها أمنياً، بدعوى أن النظام يرفض أن تلوي ذراعه أي جماعة، وهي عبارة يرددها الرئيس مبارك نفسه دائماً، حتى بالنسبة لجماعات لم يُعرف عنها العنف أبداً مثل القضاة والصحفيين وأساتذة وطلاب الجامعات وفئات أخرى من المهنيين ذوي المطالب الفئوية المشروعة. فماذا كانت النتيجة؟ وصل حجم قوات الأمن الداخلي (الشرطة والأمن المركزي) إلى المليون. أي أن الآية قد انعكست. فبينما انخفض حجم جيشنا إلى الثلث، بعد أن قررنا إدارة صراعاتنا مع الخارج، بما في ذلك إسرائيل، إدارة سلمية. وهو ما رفض ويرفض حسني مبارك أن يأخذ به في إدارة الخلاف مع مخالفيه أو معارضيه، إدارة سلمية. لذلك فنحن نشهد الآن وبشكل متصاعد لجوء فئات عديدة إلى العنف الأهلي في مواجهة العنف الحكومي. والخطير في الأمر أن عدد الفئات التي تضطر إلى المواجهات السلمية، ثم العصيانية، تتزايد كمتوالية هندسية. فبعد أن كانت فقط من جماعات الغلاة باسم الإسلام، انضم إليهم الآن الأقباط، وبدو سيناء والقضاة، والحركات الديمقراطية (المدنية) التي يرمز إليها حركة كفاية، وحزب الغد، وايمن نور، وجماعة الإخوان المسلمين والعمال والطلبة. ويبدو أن معظم هذه الحركات الاحتجاجية قد وجدت في مسألة القضاة ضالتها المنشودة كجامع مانع لكل مطالبهم، وهي في جوهرها "العدالة". والقضاة هم رمز وتجسيم لتلك القيمة المركزية في تراثنا المصري والعربي والإسلامي، فالتف الجميع حولهم، تضامناً مع مطالبهم العادلة في الاستقلال، والحد من تدخل السلطة التنفيذية في الشأن القضائي، واحتجاجاً على تقديم القاضيان هشام البسطويسي (شفاه الله) ومحمود مكي، وهما نائبان جليلان لرئيس أعلى محاكم الديار المصرية، وهي محكمة النقض، إلى محاكمة تأديبية. وذلك لسبب واحد ووحيد، وهو أنهما كانا بين عشرات القضاة الذين نبّهوا إلى ما شاب الانتخابات البرلمانية الأخيرة من غش وتزوير، وطالبوا بالتحقيق فيها. ولأن ملايين المصريين قد شهدوا بأنفسهم عمليات الغش والتزوير، فهم يقرون هؤلاء القضاة على ما نبهوا له وطالبوا بالتحقيق فيه. لذلك التفت الجماهير حولهم. ومرة أخرى، فبدلاً من أن يعالج نظام الرئيس مبارك الأمر معالجة سياسية فقد سارع إلى نفس الأسلوب الأمني العنيف، الذي تحولت به القاهرة إلى ميدان قتال بين الجماهير وقوات الأمن المركزي لنظام مبارك. فهل نحن بصدد حروب أهلية على عدة جهات يشنها النظام على بقية الشعب المصري؟ أم أن الله هو وحده الأعلم؟