لم تكن الثورة المصرية ضربة مفاجئة للنظام السابق فحسب، وإنما باغتت كل القوى التى برزت على مسرح الأحداث عقب اندلاعها، فلم يكن بوسع أقوى التنظيمات آنذاك سواء المؤسسة العسكرية أو القوى الإسلامية وضع سيناريو محتمل لمرحلة ما بعد السقوط، إذ لم تكن لها قيادة منظمة تدير آليات التحول الديمقراطى، وإنما اعتمدت بشكل أساسى على مليونيات المتظاهرين والتى كانت بمثابة الوقود المحرك لها، فضلاً عن تفاعلات الأحداث وعناصر الثورة المضادة التى أسفرت عن فراغ سياسى وانقسام حاد فى العديد من القضايا المصرية، الأمر الذى نتج عنه إقحام القضاء فى كافة الصراعات، فلم يعد هناك مخرج سوى الاحتكام إليه فى العديد من القضايا السياسية والثورية، مثل حل الحزب الوطنى والمجالس المحلية ومحاكمات قتلة الثوار، وإصاباتهم وقانون العزل وحل مجلس الشعب واستبعاد بعض مرشحى الرئاسة، وقد استمرت إلى ما بعد انتخاب الرئاسة مثل دعوى إسقاط الجنسية عن أبنائه وتوقيع الكشف الطبى عليه، وأخيرًا النزاع القضائى بشأن القرارات الثورية المتعلقة بإقالة النائب العام السابق، كلها قضايا تكشف عن اتساع الفجوة بين كافة القوى وانسداد قنوات التواصل بينها، مما ترتب عليها وضع القضاء على خط المواجهة مع طموحات الثورة، فأحكامه لن ترضى كافة الأطراف المتصارعة والقضاء لن يصدر أحكاماً ذات أكثر من منطوق ليحصل كل خصم على ما يريده منها، فضلاً عن أن القضاء العادى لا يعترف بالقوانين الثورية، فهى وفق منظوره النظرى مفهوم مضاد للقانون، وتعد خروجاً عن أحكامه، ولو فشلت الثورة سوف يحاكم القائمون عليها، ولو نجحت فإنه يتعين أن تطبق القوانين الثورية والقرارات الإصلاحية، فالقضاء الثورى استجابة لرغبة شعب أسقط نظامه. أما الخلط بين الشرعية الثورية والقانونية والمزج بينهما يؤدى إلى مزيد من الارتباك السياسى وعدم قناعة المواطن بما صدر من أحكام قضائية، فالقضاء لا علاقة له بالمواءمات السياسية ولا يصدر أحكاماً لإرضاء المتظاهرين، فهو يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، لأن احترامه للقانون وولاءه الأول والأخير لشعب مصر، وليس لفصيل بذاته، ومن ثم كان لزاماً على كافة القوى السياسية أن تدعم استقلاله وتتوقف عن الهجوم عليه ومحاولة توريطه فى أية خلافات بينها أو استمالته، إلى جانب أى منها، حتى لا يفقد مصداقيته أمام المواطن، فهو فى النهاية الحكم بينهم فى وقت أصبح دخول قاعات المحاكم أسهل بكثير من قاعات الحوار السياسى، إن تلك الغاية ليست مطلباً فئويًا، وإنما أهم ركائز الدولة الديمقراطية الحديثة التى يتسيدها القانون وتحترم أحكام قضائه.