هل هناك ولادة بلا ألم؟ والأهم من ذلك: هل الأم المقبلة علي المخاض تنشغل كثيرا بذلك الألم الذي سوف تعانيه, أم تنشغل بالاعداد لمولودها الجديد؟ هو ألم نعم, ولكني أكاد أقول أنها تتشوق لذلك الألم النبيل, الذي يسبق انبثاق حياة جديدة! ذلك هو حال مصر الآن وهي تسعي لاستكمال نظامها الديمقراطي! ولكن, قد يقول قائل, ما هذه المبالغة, وما هذا التشاؤم؟ لقد ولدت الديمقراطية فعلا في مصر, بعد أن أنتصرت ثورتها, وحظيت برئيس منتخب ديمقراطيا لأول مرة في تاريخها الحديث! ولكني أقول أن هذا تبسيط شديد, ولو كان التحول الديمقراطي يمكن إنجازه في عامين.., لكانت الدنيا كلها قد تحولت للديمقراطية منذ زمن بعيد! ما حدث هو خطوات علي طريق الديمقراطية.., ولكن: ينقصنا تعددية سياسية حقيقية تتوازن وتتكافأ فيها فرص كل القوي في التنظيم والحضور السياسي, وينقصنا الدستور أبو القوانين- الذي لم يتم إنجازه بعد, ولا تزال عملية إعداده تجري بمعاناة منطقية ومفهومة تماما! ثم ينقصنا تقاليد وقيم الممارسة الديمقراطية, أي' ثقافة الديمقراطية' التي لا تزال عناصرها بعيدة عن عقول وقلوب ملايين المصريين علي الأقل بسبب ظروف الفقر والأمية التي يرزح تحتها ما لا يقل عن30% منهم!, وهذه الثقافة تستلزم وقتا طويلا لتترسخ وتنمو!. أن الشرط الأول, للحديث عن مجتمع' ديمقراطي' هو وجود' تعددية' سياسية حقيقية وفاعلة, تضمن تداولا سلميا وآمنا للسلطة وفق الشروط التي يحددها الدستور والقانون, ووفق آليات تنافسية عادلة! ولا نستطيع في اللحظة الراهنة الجزم بوجود هذه التعددية علي النحو الأمثل لظروف وتطورات معروفة, ولكن ليس هناك ما يمنع إطلاقا من نضجها وتبلورها! وليس جديدا القول هنا, بأن الغلبة السياسية الحالية للإخوان المسلمين ولحزب الحرية إنما جاءت وفق آليات ديمقراطية, من السخف المبالغة في التشكيك فيها, ولكنها أيضا ولنتحدث بموضوعية كاملة- انطبعت بالظروف الخاصة للمجتمع المصري السابق الإشارة إليها, من حيث الأمية والفقر, فضلا أيضا عن جهود استمالة( ولا أقول رشوة) الناخبين, باسم الدين والعمل الخيري. غير أن هذا كله لا يبرئ ساحة القوي الأخري المدنية( الليبرالية, والاشتراكية, والقومية) من مسئولية الفشل, فضلا بالطبع عن القوي' الثورية' التي تاهت بوصلتها, قبل أن تتمزق وتتلاشي! إنني أعتقد أن من مصلحة كل القوي السياسية( وفي مقدمتها بالقطع الإخوان المسلمين), دعم وترسيخ التعددية في مصر, إذا أرادت فعلا تقدما نحو مزيد من الديمقراطية فيها. وبعبارة أخري, فإن فتح النوافذ والآفاق أمام التعددية السياسية الفاعلة, هو الذي يجسد أهم شروط الديمقراطية. ولكن تظل المهمة الأولي واقعة علي عاتق القوي السياسية الأخري( غير الإخوانية) التي يتعين عليها لملمة قواها, وحشد صفوفها والتعلم من أخطائها, والتغلب علي نزعات الفردية والشللية, والتوجه نحو التنسيق والعمل الجماعي, ليس لمحاربة الإخوان أو مخاصمتهم, وإنما لمنافستهم من خلال الآلية الوحيدة التي تتيحها الديمقراطية, أي: الانتخابات, وصناديق الانتخابات. إننا نعلم جميعا, أن الإخوان كانوا الأكثر إلحاحا علي الإسراع بالانتخابات( أولا!) لاقتناص ظرف سياسي كان هو الأكثر مواتاة لهم, وقد تم لهم ماأرادو. ولكن القوي السياسية الأخري, التي أخذت علي غرة, ليس لها العذر اليوم إن لم تكن مستعدة, وإن هي فشلت في جذب الأنصار في مناخ سياسي مفعم بالحيوية, وبعد أن أصبح' المواطن' المصري, أكثر استعدادا للمشاركة السياسية, وللإنخراط الطوعي في الأحزاب السياسية, بشرط أن يقتنع بها, ويؤمن بفاعليتها في تطوير بلاده! وفي هذا السياق لابد من التذكير هنا بحقيقة إن الخريطة السياسية في مصر تتجه الآن للتبلور بشكل إيجابي, و'طبيعي'( إن جاز هذا التعبير!) بعد أن انسحبت منها القوي التي أضفي وجودها طابعا استثنائيا علي مجمل العملية السياسية منذ إندلاع الثورة, أي: المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي' أدار شئون البلاد' بين إسقاط النظام القديم وانتخاب رئيس الجمهورية, ثم كان وجوده مع وجود الرئيس وضعا شاذا تم تصحيحه علي نحو سلمي ومتحضر, وأتاح لمصر حكما مدنيا خالصا, لأول مرة منذ ستين عاما! غير أن هذه التحولات المهمة في المشهد السياسي المصري, سوف تعود بالضرورة لتؤثر علي قوي الإسلام السياسي نفسها, فالتنافسية السياسية المفتوحة, في مناخ سياسي أخذ يستعيد أوضاعه الطبيعية, وفي بيئة سياسية لها بالقطع جذورها وتقاليدها سواء علي مستوي كل قوة بذاتها( الليبرالية, والاشتراكية, والقومية) أو علي مستوي العلاقات فيما بينها, يفرض علي القوي الإسلامية تطوير خطابها. ففارق كبير بين العمل الحزبي السري, أو المغلق والمنعزل, وبين العمل الحزبي في النور, وفي العلن. ولسنا هنا بحاجة للتذكير بأمثلة عديدة لكثير من الأفكار والمفاهيم التي طرحت من بعض القوي( الدينية) بحسن نية وسلامة مقصد, ولكنها لا تنسجم مع العصر, ولا مع شروط بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة! هذا التعدد السياسي المرتبط بالضرورة بالنظام الديمقراطي يلزم علي الفور إمكانية' تداول السلطة' عبر صندوق الانتخابات. وبعبارة أخري, فإن التعددية التنافسية, لا تتحقق فقط بوجود الأحزاب المتعددة, وإنما أيضا بإمكانية تداول السلطة فيما بينها. وليس بعيدا هنا, ما يجول في ذهن بعض القوي السياسية, من خشية أن يسعي الإخوان للتعددية والتنافسية لجولة واحدة فقط, يسعون بعدها لاحتكار السلطة أو تأبيدها لديهم! ولست من أنصار هذا التخوف, ليس فقد لأنني لا أعتقد أن ذلك هو السائد لدي' الحرية والعدالة' والإخوان, وإنما أيضا لأن المواطن المصري نفسه قد تغير جذريا بعد الثورة, وما أعطاه للإخوان, ولحزبهم من تفويض مرهون بوفائهم بوعودهم, وباستجابتهم لمطالب وآمال الشعب, وهي مهمة ليست سهلة علي الإطلاق! وبعبارة أخري فإن المواطن المصري, والشعب المصري, أصبح' أكثر ذكاء' ووعيا بكثير من أن يفرض عليه احتكار جديد للسلطة, أيا كان مصدره! غير أن التخوف الأهم يتعلق اليوم بالوضع الاستثنائي, والناجم عن غياب مجلس الشعب, والذي يتمثل في جمع رئيس الجمهورية, د. محمد مرسي, بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, فلا يستقيم الحديث عن نظام ديمقراطي, دون فصل حقيقي وفاعل بين السلطات. وإذا كان مبرر ذلك الوضع هو غياب البرلمان, فإن من الضروري أولا ألا يستخدم الرئيس تلك السلطة التشريعية إلا في الحدود الدنيا, وللضرورة القصوي, وهي أمور مسلم بها في أي مجتمع ديمقراطي. ومع التقدير الكامل للدكتور مرسي, والتزامه بالديمقراطية, وكذلك لتأكيدات قيادات الحرية والعدالة أن الرئيس لا ينوي استخدام سلطته التشريعية إلا في حدود الضرورة, إلا أن حقائق السياسية, وعلم السياسة, تعلمنا أن السلطة المطلقة, المتمثلة في الجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, لها اغراؤها, الذي يجب أي نوايا طيبة, الأمر الذي يحتم بالقطع الإسراع بالعملية الانتخابية, لإعادة العملية التشريعية لصاحبها الأصلي! وإذا كان الفصل بين السلطات هو أحد الملامح الأساسية, المطلوب الحفاظ عليها وتحقيقها لترسيخ النظام الديمقراطي, فإنه يتأكد بالضرورة بالحفاظ علي' استقلال القضاء'! ولا شك أن تولي القاضي الجليل المستشار أحمد مكي, الذي هو أحد فرسان استقلال القضاء لوزارة العدل, يمثل بادرة إيجابية لترسيخ هذا البعد للنظام الديمقراطي. والواقع أن المستشار مكي لم يخيب الأمل فيه منذ اليوم الأول, عندما أتخذ قراره بنقل' التفتيش القضائي' من وزارة العدل إلي المجلس الأعلي للقضاء, وهو مطلب كثيرا ما نادي به القضاة, إبعادا للقضاء عن الحكومة. غير أن هناك مسائل شائكة أخري, ربما كان في مقدمتها أثنان: أولاهما, الموقف من المحكمة الدستورية العليا, والتي عاب البعض علي الوزير الجديد ملاحظاته بشأنها, ولكن يظل الحفاظ علي المحكمة الدستورية العليا, والإرتقاء بها وبدورها بشكل ينسجم مع مجمل أعمدة النظام الديمقراطي أمرا مشروعا ومطلوبا, أما المسألة الأخري, والتي أشار إليها العديد من الكتاب والمعلقين, فهي' الوباء' الذي استشري أخيرا, والمتمثل في التعليق علي الأحكام القضائية, مدحا أو قدحا, والذي أصبح وكأنه أمر عادي أو مبرر, إلي حد تسيير مظاهرات أو تجمعات أمام المحاكم, اعتراضا علي حكم ما أو ضغطا من أجل حكم آخر!! تلك ظاهرة تتنافي بشكل مباشر وفج مع ألف باء استقلال القضاء والحفاظ علي هيبته! وهل بعيدة هنا بعض المشاهد' المخزية' لقاعات المحاكم, وهي تشهد ثورة جمهور الحاضرين علي قضاة احتجاجا علي أحكامهم؟ تلك الممارسات ينبغي أن تتوقف, ويجب أن يعود للقضاة, ولقاعات المحاكم الاحترام الواجب, ليس فقط من أجل الحفاظ علي هيبة القضاء والقضاة, وإنما أيضا للحفاظ علي صورة مصر المتحضرة والمتمدنة والتي افتخرت دوما بقضائها المستقل الشامخ! ذلك أمر واجب علي المواطن العادي, كل مواطن, ولكنه أوجب علي القوي والأحزاب السياسية, حتي إستمرأ بعضها التعليق علي أحكام القضاء, مدحا أو قدحا, مقدما نموذجا سلبيا ينبغي أن يختفي من حياتنا العامة! أخيرا, ومن بين مقومات أخري عديدة للديمقراطية, لا شك أن لحريات التعبير, وما يرتبط بها من حريات للصحافة والإعلام, مكانتها الخاصة كإحدي الدعامات الأساسية للنظام الديمقراطي. ولا شك هنا, أن قرار الرئيس محمد مرسي بإلغاء الحبس الاحتياطي في قضايا النشر( بما في ذلك تهمة إهانة رئيس الجمهورية!) قد حقق أملا عزيزا للصحفيين والإعلاميين المصريين طال انتظاره لما يقرب من ثلاثين عاما, وهو القرار الذي طبق علي الفور علي الصحفي' إسلام عفيفي' رئيس تحرير' الدستور'! غير أن من المؤكد أن ذلك المكسب الديمقراطي لن يكتمل إلا بإلغاء عقوبة الحبس بالكامل في قضايا النشر, وليس فقط الحبس الاحتياطي علي ذمة التحقيق! وبعبارة واحدة, ليس من المتصور في سياق ثورة25 يناير التي قامت من أجل إقامة نظام ديمقراطي في مصر, أن تظل سارية تلك العقوبات التي ما تزال تضع مصر للأسف- في مكانة متردية بالنسبة للحريات الصحفية في العالم! غير أن حرية التعبير تتعدي بالقطع حرية الصحافة إلي كل أشكال التعبير, فضلا عن حرية الإبداع. ولا شك أن الطابع' الإسلامي' للحكم يشجع بعض العناصر المتشددة أو المتطرفة دينيا لأن توزع أوصافها أو اتهامات أو حتي فتاواها بالتكفير و'الردة' هنا وهناك والتي لطخت في الحقيقة مشهد التطور الديمقراطي, فضلا عن افتقار البعض لسعة الصدر الواجبة لتقبل النقد, في حالات كثيرة وجدناها أخيرا. ولكن يظل هذا كله أمرا متوقعا.. فثقافة وقيم وتقاليد الديمقراطية كما ذكرنا- لا تتحقق بين عشية وضحاها, ولكن يظل الاتجاه العام إيجابيا, وباعثا علي التفاؤل, والأهم من ذلك أن يكون دافعا لحشد كل القوي لاستكمال التطور الديمقراطي الذي طال شوقنا إليه, وإلي آثاره الإيجابية علي جميع نواحي حياتنا! المزيد من مقالات د.أسامة الغزالى حرب